استهلّ، بالكلمات السابقة؛ قبل سبعين عاماً، ساطع الحصري (1879 ـــ 1968)، محاضرته الافتتاحية التي ألقيت على طلاب معهد الدراسات العربية العالمية المعنونة: «الأمة العربية: ماضيها وحاضرها وواجباتها نحو بناء مستقبلها». في هذه المحاضرة وضع الحصري أساسًا مبكرًا للنقد الذاتي للمسألة العروبية بأبعادها المختلفة: مسارها التاريخي وتراوحاته صعودًا وهبوطًا، ما واجهته من تحديات داخلية تتمثل في النزعات القومية وخارجية بفعل الأطماع الاستعمارية، وتجليها الثقافي وانعكاسه على واقع التنوع القومي والإثني الذي يعيش على المساحة الجغرافية الناطقة بالعربية: «الوطن العربي/الأمة العربية/المنطقة العربية»، ورصد الاستجابات المتفاوتة من قبل القوميات والإثنيات المختلفة للتجلي الثقافي العروبي. وكان الرجل من الجرأة والنزاهة في أن يقرّ بما أصاب الأمة العربية ــ آنذاك ــ من «تأخر» على المستويين المادي والمعنوي.
نجتاج إلى تجديد «النقد الذاتي» المبكر في ضوء المستجدات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية
ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، لا تزال الأسئلة التي طرحها الحصري قائمة بل نجدها تزداد كمًّا وكيفًا مع ما مرّ بالمنطقة من نكبات ونكسات حالت فعليًا وعمليًا دون تحقيق وحدة الأمة العربية كما حلم ونظر لها ساطع الحصري وغيره من العروبيين.
ويبدو لي أننا في حاجة ماسة إلى تجديد «النقد الذاتي» المبكر الذي مارسه الحصري في ضوء ما طرأ من مستجدات وما جرى من تحولات على / في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على الصُعد القطرية والإقليمية والعالمية على مدى سبعين سنة. فلقد عانى الحيز العربي من صراعات حول اختطافه تارة من قبل الأوليجاركية الحاكمة التابعة وتارة من قبل أصحاب المشروع الديني ما أدى بالأخير إلى سريان ما أطلقت عليه مرة «فيروس التفكيك»؛ في بدن دول/مجتمعات المنطقة. لذا بقيت العروبة حالة «متخيّلة» Imagined، إذا ما استعرنا تعبير المؤرخ والعالم السياسي بينديكت أندرسون، بفعل عدم اكتمالها أو إجهاضها أو حصارها،... وكان أخطر ما نتج عن عدم الاكتمال والإجهاض والحصار، أن تعرّضت الحقيقة المادية السياسية، ولو كانت نسبية، أقصد الدولة الوطنية؛ للكثير من التشوهات وهي الوحدة السياسية: الأساس؛ التي كان من المنوط بها أن تكون رافعة للعروبة: الفكرة والممارسة، المادية والمعنوية،...، إلخ.
وفي هذا السياق، نذكر بأنّ العروبة في إطلالتها المكتملة ــ القصيرة زمنيًا جدًا ـــ التي شهدت ذروة اللحظة التاريخية العروبية أو الزمن العروبي جسّدتها دولة يوليو الناصرية في الفترة من 1956 إلى 1966، تحديدًا؛ وكانت نتاجًا لمشروع تنموي استطاع أن يؤسّس لقاعدة إنتاجية صناعية بالأساس تتوزع عوائدها توزيعًا عادلًا على عموم المواطنين على اختلافهم. ولم تنحصر نتائج ما سبق في الداخل المصري وإنما امتدّ إلى خارج الحدود المصرية وبالطبع كانت الدائرة العربية هي الدائرة الأولى التي تستفيد من الثمار المادية للعقد العروبي كذلك بمشروعه الثقافي فيما أوجد مواطنة عروبية قاعدية.
لا بد من الاستجابة لتطلّعات عموم المواطنين العرب في أن يكون لهم موقع فاعل في العالم الجديد
الخلاصة، إذا ما أردنا الحديث عن مستقبل العروبة أن نعمل على بلورة «مخيال» عروبي مكتمل ومستدام.. «مخيال» لا يستنسخ وإنما يستلهم العروبة في إطلالتها المكتملة القصيرة العمر ويتجنب عوامل الإجهاض.. «مخيال» لا يقتصر على رابطة الثقافة واللغة وحدهما دون القاعدة المادية التي تؤمن الاكتمال والاستدامة.. «مخيال» يدرك أنّ عموم المواطنين العرب هم القاعدة الاجتماعية صاحبة المصلحة ومن ثم لا بد من الاستجابة لتطلعاتهم وأمانيهم في أن يكون لهم موقع فاعل في العالم الجديد.
(خاص "عروبة 22")