"الحدث الأول" تمثّل في الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة، والتي كشفت عن تهاوي قيم ومرجعيات عدة. فضد قاعدة احترام الملكية الخاصة، سارعت دول أوروبية عدة إلى تجميد أصول الأفراد والشركات الروسية على أراضيها، من أندية لكرة القدم، إلى عقارات خاصة، إلى شركات في قطاعات مختلفة، ناهيك عن تجميد الأموال السائلة في البنوك. مثل هذا العقاب لا يوقع إلا على خطأ محقق، ما يعني أنّ تلك الدول نصّبت نفسها قاضيًا في صراع سياسي هي أصلًا طرف فيه. وحتى لو كان ثمة خطأ روسي يستحق العقاب، فما ذنب مستثمرين ورجال أعمال أفراد وثقوا بالغرب، ومارسوا نشاطهم في دوله؟ خصوصًا أنّ أغلبهم ضد الحرب، وأنّ جميعهم لم يُستشاروا فيها.
وقائع فاضحة عند إجلاء الرعايا الأوكرانيين مثل تمييز البيض الأرثوذكس منهم على حساب الملوّنين والمسلمين
وضد قاعدة الفصل بين الرياضة والسياسة، أصدرت عشرات الاتحادات الرياضية إجراءات عقابية ضد الرياضيين الروس، تمنع مشاركتهم في المسابقات الدولية. كما تم حرمان روسيا من حق تنظيم أية مناسبات رياضية كانت أُسندت إليها. الأمر نفسه جرى في المجال الفني، حيث قاطعت كل المسارح والمهرجانات الفنانين الروس وتوقفت عن عرض أعمالهم أو مساهماتهم في نشاطها. بل إن بعض المنتديات الثقافية والجامعية توقفت عن تدريس أو الاحتفاء بأعمال الأدباء الروس العظام وعلى رأسهم ليو تولستوي، وديستوفيسكي، في نوع من العقاب الجماعي، لا يبالي بالخطوط الفاصلة بين السياسة وغيرها، ولا حتى بين الحياة والموت.
وضد أيديولوجية حقوق الإنسان، التي تمجّد الإنسان ككائن حر، بصفته المجرّدة بعيدًا عن أي انتماء عرقي أو ديني، جرت وقائع فاضحة عند إجلاء الرعايا الأوكرانيين إلى بلدان مجاورة، مثل تمييز البيض الأرثوذكس منهم على حساب الملوّنين والمسلمين، سواء عند نقلهم أو استقبالهم، ونوعية الإقامة التي مُنحت لهم، والحقوق التي ترتّبت عليها، وهو ما أفصحت عنه أقوال مواطنين عموم ومعلّقين أوروبيين تبرّر منسوب التعاطف المرتفع مع الأوكرانيين بأنهم مثلهم، بيض وشقر، وليسوا شرق أوسطيين، عربًا أو مسلمين.
أما "الحدث الثاني" فتمثّل في عملية "السيوف الحديدية" التي لا تزال جارية، والتي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزّة في إطار ردّه على عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها "حماس"، دفاعًا عن شعبها إثر اضطهاد استمرّ لعقود، وحصار خانق حوَّل القطاع إلى سجن بالمعنى الحقيقي لا المجازي. وهي في كل الأحوال استهدفت جنود المحتل في حزام استيطاني غير شرعي، وإن جرى أسر وقتل بعض المدنيين على سبيل الاستثناء والخطأ.
أما "السيوف الحديدية" فجاءت بالغة الوحشية، أسقطت على نحو منهجي مدبّر أكثر من ستة عشر ألفًا من المدنيين وأضعافهم من الجرحى، جلّهم من الأطفال والنساء، وأفضت إلى تدمير البنية التحتية للقطاع وعلى رأسها المشافي والمدارس.
ضعف التعاطف الغربي مع الفلسطينيين والنظر إليهم على أنهم بشر من درجة أدنى لم يكن وليد اللحظة الراهنة
ورغم ذلك كان رد الفعل الغربي الرسمي على العمليّتين بمثابة المفارقة. فضد "طوفان الأقصى" كانت الإدانة واضحة، والعقاب فوريًا وعمليًا بتحريك البوارج وحاملات الطائرات وفتح مخازن السلاح دعمًا لإسرائيل. وعلى "السيوف الحديدية" لم تكن ثمة إدانة، بل مجرد تحفظات جاءت متأخّرة إلى ما بعد تدمير جل المشافي وهدم بعض المدارس والمساجد والكنائس وما صاحب ذلك من مجازر. ولم يصاحبها إجراءات عملية، سواء عسكرية أو حتى سياسية، من قبيل المطالبة بوقف إطلاق النار، إذ لم تزد أكثر الأصوات تعاطفًا عن الدعوة إلى هدنة إنسانية وإدخال المساعدات.
والحقيقة أنّ ضعف التعاطف الغربي مع الفلسطينيين، والنظر إليهم على أنهم بشر من درجة أدنى، لم يكن وليد اللحظة الراهنة، فقبل نحو العام ونصف العام، اغتال جنود الاحتلال الإسرائيلي الإعلامية الفلسطينية البارزة شيرين أبو عاقلة، رغم جنسيّتها الأمريكية، فجاء تعليق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن باهتًا، أكد فقط على حقها في جنازة هادئة لتوارى التراب في سكينة، ولم ينتفض مثلًا، كما تفترض النزعة الإنسانية الحق، ضد الجريمة الإسرائيلية المركّبة، التي بلغت الحد الأقصى من الغباء والجنون، اغتيالًا للشخصية وتمثيلًا بجنازتها، الأمر الذي يكشف عن مدى خيانة الغرب لنفسه.
(خاص "عروبة 22")