كنتُ وما زلتُ، أكره استخدام تعبير "الخيانة" وأنفر منه بشدة ولا أستطيع دمغ أي شخص به مهما كان شطط كلامه وشذوذ مواقفه، لكني الآن، وكلي حزن، لا أجد سوى الخيانة وصفًا لحال تلك الحفنة التي تعاني من فقر مشين في الضمير، ليس الوطني فقط بل الإنساني أيضًا، بعدما وضع أعضاؤها أنفسهم - طمعًا أو جهلًا - في هذا الموضع المشين ثم راحوا يقيمون صرح خيبتهم على ترسانة من الأكاذيب والجهالات، أسوأ وأفدح ما فيها اثنتان:
أولاهما: القول بعدم جدوى المقاومة المسلّحة - وربما فعل المقاومة عمومًا - في تحرير فلسطين واقتضاء حقوق شعبها من العدو الغاصب، بل أنّ البعض من هذه الحفنة ذهب حد الجهر بأن لا حل أمام شعب فلسطين سوى الاستسلام للعدو طلبًا للنجاة. وآخرون من هؤلاء تفضّلوا على شعبنا الصامد البطل بنصيحة مسمومة خلاصتها "الكف عن المقاومة المسلّحة تمامًا" والاكتفاء باستجداء العدو في مفاوضات، يسمّونها "عملية تسوية" طالت حتى الآن لنحو أربعة عقود من الزمن ولم يعد الصهاينة أنفسهم معنيين بها، بل يعلنون بمناسبة وبدون مناسبة، رفضها صراحة وبغطرسة فاجرة!
هل حصل شعب واحد في هذه الدنيا على حريته من غاصبيه دون أن يقاوم؟
وبعد، هل من المفيد أن نسأل أعضاء هذه الحفنة أن يدلّونا على شعب واحد في هذه الدنيا حصل على حريته من غاصبيه دون أن يقاوم؟، الإجابة قطعًا لا "مزدوجة"؛ ليس مفيدًا سؤال هؤلاء، ولا حرية لمن يستسلم.
أما ثاني أفدح الأكاذيب: هناك، ممن وضعوا أنفسهم في هذه الزمرة البائسة، من ذهب بعيدًا في التذاكي لدرجة الإفراط في الغباء، إذ أسّس موقفه المشين من المقاومة بأنّ القوة الرئيسية فيها هي منظمة "حماس" الإخوانية، ما اعتبره يسوغ له دمغ نشاطها المقاوم للعدو بأنه محض إرهاب، ثم راح يردد حكايات مكذوبة وروايات مختلقة اخترعها العدو ورصع بها سرديته عما جرى يوم السابع من أكتوبر، لكن هذا البائس تجاهل حقيقة أنّ وسائل إعلام معتبرة في كيان العدو نفسه، تولت دحض هذه الحكايات وفضحت كذبها الصارخ، ومع ذلك ظل هو وأمثاله يرددونها بلا ملل ولا خجل.
ليس شرطًا أبدًا في جبهات المقاومة التوافق والوحدة الإيديولوجية بين مكوّناتها
وبالمناسبة ليت هؤلاء السادة يقرأون قليلًا في تاريخ شعوب الدنيا وكيف قاوموا دفاعًا عن أوطانهم وحقّهم في الحياة، فإذا ما قرأوا فسوف يكتشفون حقيقة أنه دائمًا وفي كل البلدان تقريبًا التي قاومت غزاة أوطانها وجابهتهم عبر ائتلافات وجبهات وطنية متعددة القوى، جمعت بين اليمين واليسار والوسط، فضلًا عمن لا ينتمون لأية أيدولوجية أو عقيدة سياسية أو دينية معينة، فقط الدوافع الوطنية البسيطة.
إذن ليس شرطًا أبدًا في جبهات المقاومة التوافق والوحدة الإيديولوجية بين مكوّناتها، بل العكس، أي التنوّع الذي يجسّد ثراء نسيج المجتمع الوطني هو المطلوب.
يعني مثلًا، الجنرال ديجول الذي هو مجرد عسكري تقليدي هو الذي قاد مقاومة ضارية ضد قوات الاحتلال النازي لفرنسا، وقد انخرط في هذه المقاومة كل تنوعات الطيف السياسي الفرنسي ابتداءً من الشيوعين والتقدّميين، وحتى المواطنين العاديين الذين لا يقعون تحت أي تصنيف.
فهل فهموا؟.. لا أظن.
(خاص "عروبة 22")