يبدو أن هناك اتفاقاً غامضاً يهدف إلى هندسة شكل سياسي في المنطقة، والإقليم والعالم، هذا الشكل يتم التخلي فيه عن القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي، طبقاً لمعايير اتفاقيات جنيف الأربع، ويصاغ بدلاً من ذلك قانون شريعة الغاب، الذي فيه يسيطر القوي على الضعيف دون هوادة، ويتم استخدام القوة المسلحة دون معايير إنسانية، كما نرى في غزة من قتل للأطفال والنساء والعجائز والمدنيين، وهدم للبيوت، والمؤسسات الدولية، ومنع الدواء والغذاء، وحظر الطاقة على السكان المدنيين، واستخدام أسلحة محرمة دولياً، دون اعتبار لقوانين المحكمة الجنائية الدولية.
كل هذا، يتسق وينطلق من مخططات كانت حبيسة الأدراج - أو بدت كذلك - لكنها مخططات يؤمن قادة ومنظرو ومفكرو الحركة الصهيونية العالمية، التي وصلت إلى ذروتها في الوقت الراهن، ضمن هذه المخططات، إفراغ الأرض الفلسطينية من سكانها، وقد خططوا لذلك طوال النصف الأول من القرن العشرين، ونجحوا في مسعاهم هذا في منتصفه عندما طردوا 90 ٪ من السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض خلال أعوام 1949،1948،1947، وهو ما عرف بسنوات النكبة.
الآن يحاولون استعادة الصورة ذاتها، والمشهد نفسه، يريدون شطب فلسطين من الخرائط العربية مستندين إلى القوة العظمى الوحيدة التي تقود النظام الدولي الحالي، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها بعض دول الاتحاد الأوروبي، فإسرائيل كما استندت في السابق إلى بريطانيا - الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس - ها هي تستند الآن على قوة عسكرية واقتصادية أمريكية غير مسبوقة في التاريخ، وترغب أمريكا في صناعة نظام عالمي جديد على مقياس رؤيتها، وترى أن إسرائيل - كقوة عسكرية في الشرق الأوسط - هي الجسر أو المساعد في تحقيق وجود هذا النظام، وقد عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما قال في خطاب متلفز 19 أكتوبر 2023، إنه يقف إلى جانب إسرائيل في حربها ضد غزة، باستثمار ذكي في الحروب لصالح الأجيال القادمة، مطالباً الشعب والمؤسسات الأمريكية، وعلى رأسها الكونغرس، بتقديم الدعم المالي والعسكري والإعلامي لإسرائيل، لأنها ستكون في صالح الأجيال الأمريكية القادمة، مؤكداً أن الحالتين - الأوكرانية والإسرائيلية - هي حالة واحدة في صالح أمريكا.
إذن، إسرائيل تتمدد وتقاتل وتحطم كل المعايير الإنسانية والدولية، برغبة ومساندة تامة من واشنطن، ضمن مخطط من المؤكد أنه لن يكون في صالح فلسطين كدولة، ولا الإقليم العربي كمنطقة حيوية في قلب العالم، وربما لن يكون في صالح استقرار العالم نفسه.
اللافت للنظر هنا، أن هذه المخططات تنطلق من سيناريوهات في عقل الكيان الإسرائيلي وحده، سيناريوهات تقوم على عدم احترام سيادة الدول الوطنية، فهي تخطط لطرد الفلسطينيين - على سبيل المثال - إلى سيناء، وإلى الأردن، أو بعض الدول الأوروبية، وذلك في تصور شيطاني يعتقد أن الشعب الفلسطيني، مجرد أشياء أو أدوات يحركها كما يشاء، وأن الدول المقترحة ستقبل ذلك بسهولة، لكن هذه الحسابات الإسرائيلية جريمة متكاملة الأركان، ضد سيادة الدول وحق الشعوب في الدفاع عن نفسها، وهي تعلم ذلك جيداً، فالمستحيل أقرب من تحقيق هذا الوهم الإسرائيلي، فهذه الطبعة الجديدة من المتطرفين في إسرائيل، لن تكون بن غوريون، وشامير، وبيغين وشارون، الذين فشلوا في تصفية القضية الفلسطينية، وفشلوا في السيطرة على الإقليم العربي في أي مرحلة من المراحل، برغم تجليات الصورة المزيفة، التي تدعيها وسائل إعلام إقليمية وعالمية.
إن ذروة الأحداث الحالية في غزة، سوف تنكسر، وستدخل إسرائيل في مرحلة استنزاف طويل، وتآكل لصورتها وسياستها على المسرح الدولي، وستتخلى عنها قوى غربية، كانت داعمة في بداية هذه الأحداث، ورأينا موقف إسبانيا الشجاع، وموقف بلجيكا أيضاً، وتغير بعض المواقف في أوروبا، وحتى داخل أروقة المؤسسة الأمريكية، وكان لافتاً للنظر تصريحات كمالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي، عندما أكدت أن أعداد القتلى الفلسطينيين كبيرة جداً، وأن الصور ومقاطع الفيديو القادمة من غزة مدمرة، وكذلك تابعنا الانشقاقات داخل أروقة وزارة الخارجية الأمريكية، واحتجاج موظفيها على الدعم اللا متناهي لإسرائيل.
وسط هذه الصورة، فإن التهور الإسرائيلي اللامتناهي، قد يقود المنطقة والإقليم، إلى حرب غير محسوبة من خلال اتساعها جغرافياً بشكل مفاجئ.
("البيان") الإماراتية