وفيما فرض الزلزالان إيقاعهما على المشاريع الاستراتيجية المُسقطة على منطقتنا بوصفها مركز طاقة العالم وقلبه المتفجّر، فقد أنتجا خصوصًا عند إشهار بنيامين نتنياهو خريطته للشرق الأوسط، بعد إعلان ولي العهد السعودي أنّ بلاده "تقترب من التطبيع مع إسرائيل.." أنتجا اللحظة الاستراتيجية العاصفة لزلزال "طوفان الأقصى"، وتناوب على تجحيظ هذا الاستنتاج أيضًا، كل من جو بايدن ونتنياهو.
ورغم أنّ ثنائي الفيتو النووي، الصين وروسيا، أكبر المستفيدين من زلزال الطوفان، لم يندفعا لإيجاد نوع من التوازن مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بصفتهم حاضني مشروع نتنياهو للشرق الأوسط الجديد، لا بل إنّهما شهدا تراجعًا لعلّ من أسبابه انخفاض سقف الموقف العربي الرسمي العام الذي لا يتخيّل نفسه خارج الحماية الأمريكية.
ما يفعله الثور الإسرائيلي الأهوج أبعد من الانتقام بكثير، إنّه الترجمة العملية لخريطة نتنياهو بالنار والفوسفور
رغم تدشين "طوفان الأقصى" شهره الثالث، فإنّ الكثير من رموز شيفرته لم تُفك خصوصًا على المستوى الأمريكي والإسرائيلي اللذين وكأنّهما لم يخرجا من صدمتهما حيال حقيقة ما جرى صبيحة "الطوفان" الذي ينبئنا كل يوم بجديد يكشف حجم العطب الاستراتيجي الذي أحدثه في الكيان المأزوم.
وفيما أخبرتنا الوقائع بعبقرية الأمريكيين في وضع استراتيجيات وخطط بديلة وموازية لتعديل أو تغيير الخطط الأصلية، فقد أنبأتنا عبقرية "الطوفان" بعقم مخيّلة راسمي السيناريوهات للتعامل مع الوضع في اليوم التالي للسيطرة على غزّة، وبيّن ذلك تخبّط الأطاريح الأمريكية وتعارضها، بل وتناقضها مع مشاريع وأهداف نتنياهو وجنرالات الكيان.
كثيرون وصّفوا العدوان الاسرائيلي على غزّة، بمنهجية الأرض المحروقة والتدمير الشامل لمدن وبلدات القطاع وبنيته التحتية بالانتقام الذي يفتقد لأيّ رؤية لليوم التالي، الذي وكأنّه أُوكل لفريق عسكري بريطاني يقوم بإعداد السلطة الفلسطينية لتولي إدارة قطاع غزّة.
وفي ظل التفويض المفتوح لإسرائيل من الادارة الأمريكية ومعزوفة "التأكد من عدم استهداف المدنيين"، يتضح بأنّ ما يفعله الثور الإسرائيلي الأهوج أبعد من الانتقام بكثير، إنّه الترجمة العملية لخريطة نتنياهو بالنار والفوسفور لإلغاء الحياة عبر الإبادة الجماعية والتهجير. لكنّه أولًا بسبب استمرار الفشل الاستخباري الذي أراد تعويضه بمزيد القتل والتهجير.
على مستوى الفواعل الخارجية خيّم على قطاع غزّة، موقفان غير متكافئي القوة والقدرة: الأول، لزعيم "حزب الله" ومفاده "لن نسمح بهزيمة حماس". والثاني، لوزير الدفاع الأمريكي ومفاده "لن نسمح بانتصار حماس" ويرجّح أن يتمخّض عن تناقض الموقفين، إنزلاق للحرب الإقليمية.
وفيما انخرط الأمريكيون في قيادة الحرب على غزّة، انخرط "حزب الله" في مشاغلة جيش الاحتلال، داعمًا بمساندة متصاعدة تستنزفه في جبهته الشمالية مع جنوبي لبنان وتوقع فيه خسائر نوعية، ما دفع نتيناهو للتهديد قائلاً: "حزب الله سيحوّل بيروت وجنوب لبنان إلى غزّة وخانيونس إذا شنّ حربًا شاملة". تهديد استبقته الخارجية الأمريكية بالقول: "هناك تهديد للأمن الإقليمي والدولي بسبب الحرب الدائرة في غزّة.. ولا نريد أن نرى نزاعًا بين حزب الله وإسرائيل".
هذا النزاع، استشعر مخاطره أمين عام الأمم المتحدة انطونيو غوتيريش، ما دفعه لإبلاغ رئيس مجلس الأمن الدولي، تفعيله المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة لأنّ "الوضع يتحوّل إلى كارثة.. لا رجعة فيها على الفلسطينيين وعلى السلام والأمن في المنطقة"، ما أغضب "إسرائيل" ودفع وزير خارجيتها لاعتبار "تفعيل غوتيريش المادة 99 ودعوته لوقف إطلاق النار دعمًا لمنظمة حماس الإرهابية".
لكن هل أنّ تهديد الأمن الإقليمي والدولي والسلام العالمي، كما قال الأمريكيون وغوتيريش، ناجم فقط عن مشاغلة "حزب الله" المتصاعدة لجيش الاحتلال، وصواريخ ومسيّرات "فصائل المقاومة الإسلامية" في العراق ضد القواعد الأمريكية، و"أنصار الله الحوثيين" من باب المندب الى بحر العرب وإيلات، أم أنّ عوامل أخرى مرتبطة عضويًا بالعدوان على غزّة هي المهدّد الرئيسي للأمن الإقليمي والدولي؟
تتكاثر الضغوط السياسية والاقتصادية على مصر المطوّقة بجوار مضطرب
على أهمية الفواعل الميدانية أعلاه، يتركّز السؤال حول موقف القاهرة الحسّاس من ملفّ التهجير أو التحوّل الى سيناء الذي سبق ورفضه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من الرئيس المصري السابق محمد مرسي "الذي رحّب بفلسطينيي غزّة في شُبرا وليس في سيناء فقط"، بحسب تأكيد مستشار عباس، نبيل أبو ردينة، ويومها أنكر "رئيس حكومة حماس" اسماعيل هنيّة معرفته بعرض مرسي الذي أطاحه الجيش بتهمة التخابر مع "حماس".
اذن موضوع نقل أو تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، مشروع قديم يجري إحياؤه مجددًا، إنّما هذه المرة بالنار والدمار وليس كعرض تفاوضي رفضته مصر مرارًا بلسان رئيسها عبدالفتاح السيسي. لكنّ اللافت في تصاعد الموقف المصري بخصوص ملف التهجير إلى سيناء، هو ما ورد على لسان وزير الدفاع المصري الفريق أول محمد زكي بحضور حشد دبلوماسي غربي وعربي كبير، وفيه أنّ "ما تواجهه القضية الفلسطينية من منحنى شديد الخطورة والحساسية، وتصعيد عسكري غير محسوب لفرض واقع على الأرض هدفه تصفية القضية، وهو الأمر الذي ترفضه القاهرة".
إزاء وحدة الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء و"تصفية القضية"، تتكاثر الضغوط المختلفة على مصر المطوّقة، فضلًا عن الضغوط السياسية والاقتصادية بجوار مضطرب يُخشى أن يمتد لهيبه إلى داخلها. ففي السودان حرب طاحنة حجب العدوان على غزّة أخبارها، ثمّ هناك إثيوبيا وأزمة "سدّ النهضة" الوجودية، وفي ليبيا ثمّة دولة منقسمة وميليشيات متعدّدة بينها "بقايا جماعات مصرية" تتحيّن أيّ لحظة ضعف تصيب مصر، لتتوّج بكرة النار المتناسلة من غزّة. وثمّة من يعتقد أنّ فوضى الجوار المصري أمنيًا وسياسيًا ربطًا بالعدوان على غزّة، إنما تستهدف مصر نفسها، ولهذا تتسّم المقاربة المصرية بالحذر والقلق والحسم توازيًا مع قداسة القضيّة الفلسطينية ورمزيّتها وعدالتها، مقابل اصطفاف إقليمي دولي داعم لإسرائيل التي تعمل على تهجير الفلسطينيين إلى رفح حيث الحدود مع مصر.
هل ستفعل الضغوط فعلها وتجعل التهجير إلى سيناء أمرًا واقعًا حتى ولو كان ثمنه "تمزيق العلاقات مع إسرائيل"؟
يبقى السؤال الذي يلحّ في طرح نفسه، هل أنّ استبعاد مصر عن "الممرّ الاقتصادي" وما سبقه ويتردّد صداه حول عزم "إسرائيل" إنشاء "قناة بن غوريون" كبديل عن "قناة السويس" يأتي في سياق الضغوط الكبيرة على مصر التي فوّضت الجيش المصري التعامل مع الموقف باعتباره يمسّ الأمن القومي المصري، بحسب عضو مجلس الشعب المصري مصطفى بكري، أم أنّ الضغوط ستفعل فعلها وتجعل التهجير إلى سيناء أمرًا واقعًا، حتى ولو كان ثمنه "تمزيق علاقات مصر مع إسرائيل"؟
لكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا، عن السبب الذي منع مصر من إعلان وادي غزة "خطًا أحمر" ومن قبل بدء إسرائيل بتهجير شمالي القطاع إلى جنوبه، سيّما وأنّ لمصر سابقة في تحديد الخطوط الحمراء التي تمسّ أمنها القومي وآخرها تلك التي حددها الرئيس السيسي في ليبيا عندما أعلن أنّ "سرت والجفرة خط أحمر".
(خاص "عروبة 22")