كما كان الخلاف بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر مع قطر من خارج صندوق التوقعات، كانت المصالحة في قمة العُلا من خارج الصندوق أيضًا، ويومها كتبنا أنّ "قمة العُلا أبعد من المصالحة مع قطر". فقد أقفلت هذه المصالحة الثغرة التي تتسلّل منها تركيا وإيران الى الدواخل العربية. وإذ كان ترحيب اردوغان لافتًا بالقمّة واعتباره "المصالحة الخليجية قرارًا صائبًا وخطوةً مباركة من شأنها تعزيز التعاون الإقليمي بين تركيا ومجلس التعاون الخليجي"، شنّت إيران هجومًا على القمّة وبيانها الذي حافظ على الموقف التقليدي لدول الاعتدال العربي من القضية الفلسطينية.
بعد ذلك توالت مفاعيل قمّة العُلا بإرساء المصالحات بين الإمارات والسعودية مع تركيا التي أقفلت ملف مقتل الصحافي جمال خاشقجي وسلّمته إلى القضاء السعودي. وأيضًا بتبريد التوترات مع مصر باتجاه المصالحة وفقًا للمطالب المصرية بتسليم أنقره لكوادر "الإخوان" المتواجدين على الأراضي التركية، وكانت النتيجة إبعاد تركيا لعدد منهم، وإقفال بعض منصّاتهم وقنواتهم الإعلامية التي هاجر بعضها إلى لندن. ثم أخذت العلاقات المصرية التركية تتطوّر من تفعيل السفارات، إلى لقاءات بين الرئيس المصري ونظيره التركي خارج بلديهما، إلى اندفاعة مصر والدول الخليجية لمساعدة تركيا وسوريا في مواجهة الزلزال الذي ضربهما.
بايدن أعلن مغادرة المنطقة لمواجهة الصين، وإذ بالصين تملأ فراغ الإنسحاب الأمريكي في المنطقة
كل هذا وغيره من بركات قمّة العُلا التي أسّست لمسار عربي وإقليمي جديد، يقوم على "تصفير المشاكل" ومحاولة إطفاء الحروب المشتعلة من اليمن والعراق إلى سوريا ولبنان، البلدان الأربعة التي لطالما تفاخر دهاقنة ايران بالسيطرة عليها. فكان الحوار السعودي الإيراني الذي انطلق في بغداد بوساطة رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي، ثم خلفه محمد شيّاع السوداني، والذي "خصّبته" الصين في اللحظة الاستراتيجية المناسبة ليُعلن من عاصمتها بكّين عن "الإتفاق السعودي الإيراني"، الذي ولشدّة عصفه سُمّي بالزلزال.
إنّه الزلزال الذي وضعت فيه الصين، كدولة عظمى تُنافس أمريكا على زعامة الإقتصاد العالمي، بصمتها في المنطقة التي كانت لزمن قريب حكرًا على الإستراتيجيات الأمريكية. وهو الزلزال الذي يمكن القول إنّ "القمّة العربية- الصينية في الرياض" مهّدت له، سيّما وأنه سيحرّر السعودية من المنشار الإبتزازي الأمريكي المغلّف بحمايتها من إيران دون حمايتها، والذي بلغ أوْجَه عندما سحبت واشنطن منظومات الباتريوت من المملكة قبيل قصف أذرعة إيران لمواقع "أرامكو" وغيرها بالصواريخ المجنّحة والمُسيّرات المفخّخة.
كما إنّه الزلزال الذي وقع في لحظة كان يعيش فيها العالم والمنطقة أجواء توجيه "إسرائيل" ضربة ضد مفاعلات إيران النووية، وقد استعدّ الجيش الأمريكي لها بتنفيذ مناورة مشتركة مع "إسرائيل" في النقب نفّذت خلالها مُحاكاة لقصف المفاعلات النووية شديدة التحصين.
إذن، بعد قمة العُلا المفصلية، والقمم المتوالية التي نظّمتها السعودية، استوُلد الإتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين. وفي سياق سعيها لتطبيع علاقاتها مع إيران، عملت السعودية الى تطبيع علاقاتها مع الرئيس السوري بشّار الأسد، ثمّ وجّهت له الدعوة للمشاركة في القمة العربية في جدّة. وتبرز اليوم ضغوط أمريكية لتجميد التطبيع العربي مع دمشق. وكأنّ واشنطن غضّت النظر عن التطبيع مع دمشق مرحليًا تيسيرًا لأهداف مستقبلية ليس إلّا.
بعيدًا عن الاستغراق حول التطبيع مع بشّار الأسد الذي وقّع بالأمس في بكين على شراكة استراتيجية مع الصين، بات شديد الوضوح أنّ ثلاثية الصين وإيران والسعودية، أو "الثلاثية الأولى" أنتجت التطبيع بين السعودية وإيران، فماذا عن الثلاثية الثانية؟
رغم أنّ واشنطن كانت تتابع عبر حليفها السعودي وقائع الحوار مع إيران في الصين. إلّا أنّها وبحسب الإعلام الأمريكي، صُدمت من نجاح الصفقة مع إيران، أولًا. ومن القفزة الدبلوماسية الصينية المتقدمة في المنطقة، ثانيًا. سيّما وأنّ جو بايدن كان قد أعلن مغادرة المنطقة لمواجهة الصين، وإذ بالصين تملأ فراغ الإنسحاب الأمريكي في المنطقة.
شيء من الدراماتيكية والذهول يرافق التحوّلات الجيوسياسية الدولية التي بدّلت "المباكسة" مع "المنبوذ المفترض" إلى مصافحة حارّة بين الرئيس الأمريكي وولي العهد السعودي يتوسّطهما رئيس الوزراء الهندي خلال قمّة العشرين وقبلها. وبعد أيّام قليلة على الإتفاق السعودي الإيراني، توالت زيارات المسؤولين الأمريكيين السرية والعلنية إلى السعودية. زيارات هدفت الى إعادة إحتواء السعودية التي باتت تتكلّم لغة جديدة غير تلك التي اعتادها الأمريكيون.
التطبيع السعودي المزدوج تريد منه إيران تشريع احتلالها للعواصم العربية، وإسرائيل تشريع إحتلالها لفلسطين
إنها لغة المصالح كما يعبّر محمد بن سلمان. وبلغة مصالحهم إيّاها لاقاه الأمريكيون بمشروع مضاد لمشروع "الحزام والطريق" الصيني. إنه مشروع "الممرّ الإقتصادي" القائم على سكك حديدية وموانئ المنطقة، والمنطلِق من الهند إلى السعودية والإمارات فـ"إسرائيل" باتجاه أوروبا، والذي تفاهمت عليه الدول المعنية المشاركة في قمة العشرين، وسبق أن نوقشت خطوطه العامة في أيار/مايو الماضي بين وليّ العهد السعودي ومستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، ونظيريه الإماراتي والهندي طحنون بن زايد وآجيت دوفال، بحضور منسّق إمدادات الطاقة الأميركي آموس هوكستاين وغيره. لكنّ النقطة الأكثر إثارة للجدل المكتوم، هي ما أعلنه مؤخرًا وليّ العهد السعودي حول إقتراب إمكانية التطبيع بين بلاده و"إسرائيل"، وهو ما سبق أن تحدّث عنه بنيامين نتنياهو وبعض وزرائه.
وكما كان تطبيع الرياض مع دمشق والحوثيين في اليمن، ضروريًا للتطبيع مع إيران، فإنّ التطبيع الدبلوماسي مع السلطة الفلسطينية ضروري للتطبيع مع "إسرائيل" التي دشّنته بزيارة وزير السياحة حاييم كاتس إلى الرياض للمشاركة في مؤتمر منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، تزامنًا مع تقديم السفير السعودي نايف السديري أوراق اعتماده إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في رام الله، وإعلانه "أنّ المملكة تعمل من أجل إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية". ممّا تقدم يتضح أنّ التطبيع السعودي المزدوج مع إيران وإسرائيل، تريد منه الأولى أن يفضي إلى تشريع نفوذها في العواصم التي تحتلّها من جهة، والثانية إلى تشريع إحتلالها لفلسطين وإهدار الحقوق الفلسطينية وتصفيتها وتحويل الفلسطينيين إلى مجرّد جوعى يحتاجون من يلقمهم رغيف خبز من جهة أخرى.
رغم هذا تجهد السعودية لتصيغ خطواتها بتوازن دقيق، لكن دون هذا التوازن تحديّات كبرى خصوصًا ما يتعلّق بالموقف الرسمي الفلسطيني الذي كشفت عدة أحداث وآخرها مخيم "عين الحلوة" جنوبي لبنان، أنّ لا سلطة فعلية لسلطة رام الله عليه، بل وعلى رام الله نفسها. ثم ماذا عن موقف حركات المقاومة الفلسطينية، وخصوصًا حركتا "حماس" و"الجهاد" والفصائل الوطنية الأخرى؟
حروب العقدين الأخيرين باسم الديمقراطية والثورات، هي حروب الأنابيب وممرّات الطاقة
وماذا عن إيران التي لطالما ردّدت أنها قادرة على "تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"، والتي ربّما تنقلب على مواقفها، وتقول إنّ مصالحتها مع السعودية لا توازي تطبيعها مع "إسرائيل"؟ وماذا أيضًا عن موقف "حزب الله" الذي بإمكان صواريخه تعطيل "ممر بايدن الهندي" في حيفا والذي إذا ما كُتبت له الحياة، فسيمرّ على بحر من الأشلاء والدماء، خصوصًا وأنّ حروب العقدين الأخيرين باسم الديمقراطية والثورات، هي حروب الأنابيب وممرّات الطاقة من العراق إلى سوريا وليبيا واليمن، فضلًا عن مصر المحاصرة اقتصاديًا والمهدّدة مائيًا، دون أن نغفل تطورات حرب البحر الأحمر المنطلقة في السودان وربما تنطلق غدًا منه.
ثمّة نتيجة مغايرة لما تقدّم، خصوصًا إذا ما حسمت روسيا معركتها مع الناتو في أوكرانيا، وإذا ما ضاعف مشروع الحزام والطريق الصيني سرعته ليفرض وقائع جيوسياسية تشلّ حركة المشروع الهندي الإسرائيلي.
(خاص "عروبة 22")