تساءل بارتوف: هل ما تقوم به القوات الإسرائيلية من حرب في غزّة يدخل في باب الإبادة الجماعية، التي عرّفتها الأمم المتحدة بأنها النزوع إلى تدمير مجموعة عرقية أو دينية كليًا أو جزئيًا؟.
ومع أن بارتوف ميّز بين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي من جهة والإبادة الجماعية من جهة أخرى، ولم يحسم الجواب على سؤاله المطروح، إلا أنه اعتبر أنّ بعض تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين، من رئيس الحكومة نتنياهو وبعض وزرائه وأعوانه، تحمل بالفعل معاني التهديد بالابادة الجماعية ضد الفلسطينيين بنزع الطابع الإنساني عنهم.
فهذا رئيس دولة إسرائيل يقول صراحة إنّ المسؤول عن أحداث 7 أكتوبر ليس "حماس" وحدها بل كل سكان غزّة، وذا وزير إسرائيلي ينعت الفلسطينيين بالحيوانات البشرية، وآخر يهدّد بنكبة ثانية في تلميح واضح إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا.
نحن في بداية معركة كبرى، بدأت في الجامعات الأمريكية ومواقع التواصل ولا بد من شحذ كل الجهود من أجلها
استنادًا إلى هذه التصريحات وغيرها استنتج بارتوف أنّ إرادة التصفية الجماعية للفلسطينيين حاضرة في الخطاب السياسي الإسرائيلي، بما قد يتطوّر مباشرةً إلى حالة إبادة شاملة على غرار المحرقة اليهودية والجرائم العنصرية في رواندا.
ولقد ردّ خمسة مؤرّخين إسرائيليين على بارتوف في صحيفة "هآرتس"، معتبرين أنّ اتهاماته للجيش الإسرائيلي خطيرة وغير دقيقة. لكن بارتوف عاد إلى الموضوع ذاته، في ردّه على المؤرّخين الإسرائيليين في صحيفة "هآرتس" ذاتها، مستدلًا بتعبيرات ومواقف أركان الحكم الإسرائيلي، وبعدم التزام القوات الإسرائيلية بمبدأ تناسب ردة الفعل مع الهجوم الأصلي، انتهاكًا لاتفاقيات جنيف التي وقّعت عليها إسرائيل.
ويخلص بارتوف إلى أنّ مسؤولية حماية المدنيين تترتّب على قوات الاحتلال الإسرائيلية، ولا يمكن التنصّل منها بذريعة مواجهة "حركة إجرامية".
إنّ هذه الأطروحة هي التي دافعت عنها شخصية يهودية بارزة أخرى هي روني برومان، الرئيس السابق لمنظمة "أطباء بلا حدود"، معتبرًا أنه يجب أن لا تتخوّف من استخدام عبارة "الإبادة" بحق الفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية.
نحن هنا في بداية معركة كبرى، بدأت بقوة في الجامعات الأمريكية وفي مواقع التواصل الاجتماعي في كل البلدان الغربية، ولا بد من شحذ كل الجهود من أجلها.
لقد نجحت المؤسسة الصهيونية العالمية في نقل فظائع النازية ضد اليهود إلى دلالة "الشر المطلق" الذي يختلف عن مفهوم "الشر الجذري" لدى كانط.
ما يعنيه كانط بالشر الجذري هو ميل الإنسان إلى اتباع نوازعه النفعية الضيقة في مقابل إرادته العقلية التي تدفعه إلى احترام القانون الأخلاقي، بما يحيل إلى مفارقة الحرية المقيدة في عقالها ما دامت تفضي إلى نفي نفسها من خلال الخطيئة الأخلاقية.
إسرائيل بشهادة صحافييها وكتّابها بدأت تخسر معركة الصورة والوعي
ولقد وظفت الفيلسوفة اليهودية الألمانية (المهاجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية) حنة أرندت هذا المفهوم الكانطي بعد أحداث المحرقة، معتبرةً أنّ الجرائم النازية على فظاعتها غير المسبوقة تتسم بالابتذال والتفاهة لكونها تنزع إنسانية الإنسان وتحوّله إلى ماكينة قمع بدون إرادة ولا ضمير اخلاقي..
ما نلمسه في الجرائم الإسرائيلية في غزّة هو هذا الشر الجذري الذي وصل حد التفاهة في فظاعته وقساوته، بحيث غابت كل الحدود والمقاييس القيمية والقانونية التي بلورتها الثقافة البشرية للحد من العنف، سواء تعلّق الأمر بالمفاهيم اللاهوتية القديمة للحرب العادلة أو بمعايير القانون الدولي الإنساني.
لا شك أنّ إسرائيل بشهادة صحافييها وكتّابها بدأت تخسر معركة الصورة والوعي، والمطلوب اليوم هو خوض معركة قانونية إعلامية كبرى لتوثيق وفضح جرائم الإبادة الجماعية للفلسطينيين.
(خاص "عروبة 22")