لكن بايدن لا يبدو أنه تعلّم من التاريخ الأمريكي القريب، والذي يظهر أنّ أحد أسباب صعود الصين وتعافي روسيا هو تورط أمريكا في حربي العراق وأفغانستان، وهو ما نبّه له باراك أوباما، الرئيس الأمريكي الذي كان بايدن نائبًا له، فيما عُرف بعقيدة "أوباما"، وهي العقيدة التي تدعو لتقليل التورط الأمريكي بالشرق الأوسط، والتركيز على شرق آسيا باعتباره المنطقة التي يوجد بها أكبر الفرص لأمريكا وأكبر التحديات كذلك، والأهم الاعتراف بحدود القوة والموارد الأمريكية، بعدما استُنزفت في عهد جورج بوش الابن.
وفي الواقع كانت عقيدة بايدن عقب توليه الرئاسة أقرب لعقيدة ترامب التي تناصب الصين العداء، ولكنه أضاف لإرث ترامب العداء لروسيا. وبعد حرب غزّة يمكن القول إنّ بايدن أعاد أيضًا إحياء عقيدة بوش في التورّط الأمريكي في حروب الشرق الأوسط، وهو يفترض أنّ الموارد والقدرات الأمريكية قادرة على إدارة الصراعات في الساحات الثلاث بالكفاءة نفسها. ولكن التاريخ القريب لأمريكا يؤكد العكس تمامًا.
تجربة بوش تفنّد عقيدة بايدن
عندما جاءت إدارة جورج بوش الابن للحكم ركّزت على العداء للصين وروسيا وتعاملت معهما بتحدٍ، ولكن سرعان ما وقعت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، لتتوّرط بالكامل في أفغانستان والعراق، إضافة لدعمها القمع الإسرائيلي في عهد أرئيل شارون للفلسطينيين، والنتيجة كانت إيجابية تمامًا للصين وروسيا.
وهكذا بدأت أمريكا تغازل البلدين. وبعد سقوطها في المستنقع العراقي، سرعان ما تضاءلت أهداف السياسة الأمريكية، تمامًا لتصبح في بعض الأوقات مجرد احتواء المقاومة العراقية المشتعلة، لدرجة أنها اضطرت ليس فقط لتجاهل صعود الصين وروسيا بل أيضًا للتهدئة مع إيران التي كانت تناور أمريكا بذكاء في الملف العراقي.
وأدت هذه السياسات لتحوّل فوائض الميزانية الأمريكية الكبيرة التي تحققت في عهد بيل كلينتون لعجوزات هائلة.
وفي هذه الفترة، لم تعد أمريكا تمتلك الوقت ولا الموارد ولا التركيز للانتباه للصعود الصيني الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري المذهل، الذي ساهمت واشنطن نفسها في صنعه عبر تدفق الاستثمارات والأموال الأمريكية ومعها التكنولوجيا المتطوّرة، وحدث الأمر ذاته مع روسيا التي أتيح لها المجال لاستعادة عافيتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية لأسباب عدة منها ارتفاع أسعار النفط وزيادة انتاجه منها في ظل اختناقات الإنتاج في الشرق الأوسط بسبب حرب العراق والحصار على إيران، إضافة إلى التقارب الألماني الروسي في الموقف من حرب العراق، الذي عزّز شراكة الطاقة بين البلدين التي جعلت روسيا المورد الأول للطاقة، ولا سيما الغاز لألمانيا ولكل أوروبا، وكل ذلك وفّر الموارد والوقت لموسكو، لإعادة ترميم قوتها العسكرية بما في ذلك الحصول على بعض التكنولوجيا الغربية لصناعاتها العسكرية بعدما نصّب الذهن الغربي العرب والمسلمين كأعداء.
بينما كانت أمريكا منشغلة في الحروب، كانت الصين تبني ترسانة تضاهي ما لدى روسيا وتقترب من المستوى الأمريكي
وفي مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2007- 2008، والتي كانت أحد أسبابها توسّع بوش في الإنفاق جراء حربي العراق وأفغانستان، تحوّلت الصين إلى أحد منقذي أوروبا من الأزمة، الأمر الذي فتح المجال لمزيد من تدفق البضائع الصينية والأهم تدفق للمبتعثين الصينيين إلى الجامعات الغربية وكذلك الاستثمارات الصينية لتنفيذ عمليات استحواذ على شركات غربية بما في ذلك فرص الوصول لتكنولوجيا متقدّمة، وهي العملية التي يجرى وقفها وعكسها حاليًا في الغرب، عبر حرب صليبية اقتصادية على الاستثمارات والمبتعثين الصينيين.
وعلى الصعيد العسكري أدى تورط الجيش الأمريكي بالعالم الإسلامي، إلى تغيير جذري في العقائد العسكرية الأمريكية والغربية عامة، فمالت إلى التكتيكات والأسلحة الملائمة لمواجهة المجموعات المسلحة بما في ذلك التركيز على الطائرات المسيّرة والعربات غير المدرّعة أو خفيفة التدريع، والذخائر الصغيرة الذكية، والأسلحة الخفيفة على حساب المقاتلات والمدفعية والدبابات والسفن الحربية والصواريخ الاستراتيجية المخصّصة لمواجهة روسيا والصين.
وبينما كانت أمريكا منشغلة في هذه الحروب، كانت روسيا تحدّث أسلحتها القديمة، فيما كانت الصين تبني ترسانة من الأسلحة تشمل طائرات وسفنًا ودبابات تضاهي عددًا ونوعًا ما لدى روسيا وتقترب من المستوى الأمريكي، وفي بعض المجالات مثل الصواريخ فرط صوتية تفوّقت كل من بكين وموسكو على الغرب الذي لا يمتلك هذه التقنية حتى اللحظة، في المقابل توقفت كثير من مشروعات الأسلحة الغربية الرئيسة بسبب التركيز على الحرب ضد الإرهاب.
ونتيجة لذلك تعاني الدول الغربية اليوم لإيجاد الذخائر اللازمة للأسلحة التي تقدّمها لأوكرانيا في حربها مع روسيا، ويعترف الأمريكيون بأنهم يعانون من نقص في أعداد الطائرات والسفن لردع الصين وروسيا في الوقت ذاته.
وأثّر انشغال واشنطن بحروب الشرق الأوسط بشكل كبير على أولوياتها الاستخباراتية أيضًا، إذ استثمرت موارد واهتمامًا كبيرًا في العملاء المتخصّصين في الشرق الأوسط والجماعات والمجتمعات الإسلامية، وهو مجال زئبقي ويصعب التكهّن بتغييراته، وكان ذلك على حساب الموارد والتركيز على التهديدات التي تمثّلها والصين وروسيا.
وبينما كانت أمريكا تتنصّت على ملايين المكالمات لإرهابيين ومتطرّفين مفترضين، كانت الصين تمارس أكبر عملية قرصنة تكنولوجية واقتصادية وعلمية في التاريخ تنقل فيها خلاصة المعرفة الغربية التي بنيت خلال عقود (إن لم يكن قرونًا) لجامعاتها ومصانعها ومؤسّساتها في كافة المجالات بما فيها العسكرية، ولم تستطع واشنطن التصدي لذلك فحسب بل لم تم تعطه حتى الانتباه الكافي في ظل سعار التورّط في شؤون الشرق الأوسط والهوس بالقضاء على ما تصفه بالإرهاب دون محاولة التخلي عن السياسات التي أدّت لظهوره.
بايدن يتجاهل تحذيرات أوباما
اليوم يبدو بايدن متّجهًا لتكرار ما سبق أن حذّر منه رئيسه السابق أوباما، أي إهدار الموارد الأمريكية في مستنقع الشرق الأوسط واستعداء سكانه، لأنه ببساطة لا يريد الاعتراف بأنّ أصل الشرور في المنطقة هو السياسات الاستعمارية الغربية ودعمها لإسرائيل، وهو يفترض أنّ واشنطن تستطيع أن توجّه الموارد الكافية للمنطقة ولأوكرانيا وفي الوقت ذاته تستطيع احتواء الصين ووقف صعودها.
وتتناسى هذه المقاربة أشياء عدة أولها أنّ أمريكا تخسر عن طواعية رأسمالها المعنوي المحدود أصلًا في هذه المنطقة المفصلية في العالم، وهو أمر قد يكون له أخطار كبيرة على واشنطن إذا حدث تحوّل ديمقراطي في المنطقة أو استجاب حكّامها لو جزئيًا للمشاعر الشعبية المعادية للسياسة الأمريكية، بخاصة أنّ أمامهم المنافس الصيني يستطيع أن يقدّم البديل في نواحي عدة.
كما يتجاهل بايدن القواعد الحاكمة لصعود وهبوط الإمبراطوريات. تصعد الإمبراطوريات حينما تستطيع أن تستغلّ مواردها لبناء قوتها، في ظل انشغال أكبر المنافسين بعدو أقل أهمية، وهذا ما تتيحه أمريكا للصين.
على الجانب الآخر، فإنّ هبوط الإمبراطوريات يبدأ عندما تستنزف نفسها بحروب غير ذات جدوى اقتصادية أو استراتيجية، خاصة إذا كانت مع أعداء متعدّدين ويصعب إيقاع هزيمة محدّدة بهم.
أول آثار حرب غزّة على توازن القوى هو ما أبداه بايدن من ليونة غير مسبوقة خلال القمة الأمريكية الصينية
اليوم وجّهت الولايات المتحدة مجموعة من أكبر سفنها الحربية للشرق الأوسط، لردع أعداء لا يملكون سفنًا، وتخصّص موارد عسكرية لمحاولة وقف هجمات الحوثيين الصاروخية البدائية ولكن المؤثرة وهي لا تستطيع الرد عليهم حتى لا تتورّط في المستنقع اليمني الذي لم يفلح فيه أحد.
وفي العراق، تواجه أمريكا عشرات التحرّشات الصغيرة، من المليشيات الموالية لإيران التي لو ردّت عليها بقسوة سوف تفجّر الوضع بالعراق، وإن تركتها واصلت إشغالها.
من جانبه يرى مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي في المخاطر الناجمة عن مشاعر الغضب لدى المسلمين في العالم وأمريكا، خطرًا مستقبليًا، لا يمكن معرفة أبعاده، فالخطر القادم قد يأتي من فتية صغار يشاهدون مجازر غزّة على "تيك توك"، أو من يميني أبيض متطرّف يشاهد "فوكس نيوز"، وليس من الإرهابيين أصحاب اللحى والملفات المتخمة المخزّنة لدى الـ"سي أي أيه".
وأول آثار حرب غزّة على توازن القوى بين واشنطن وبكين هو ما أبداه بايدن من ليونة غير مسبوقة خلال القمة الأمريكية الصينية التي عُقدت في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، لدرجة أثارت انتقادات حادة من قبل الجمهوريين، كما توقفت واشنطن عن تنفيذ مزيد من الخطوات الاحتوائية للصين.
على الصعيد المالي، تريد إدارة بايدن تخصيص 114 مليار دولار لأوكرانيا وإسرائيل، ويبدو هذا رقمًا ضئيلًا مقارنةً بالإيرادات في الميزانية الأمريكية التي تقدّر بـ4.4 تريليون دولار، ولكن في الواقع أنّ هذا مبلغ سوف يساهم في تفاقم عجز الميزانية الأمريكية الهائل المقدّر بنحو 1.7 تريليون دولار، وفي الوقت ذاته تعتمد واشنطن تقليديًا في سداد عجوزتها المالية على قوة الدولار عبر إصدار السندات وغيرها من أدوات الدين التي تشتريها الدول الخارجية، ولكن الصين تتخلى تدريجيًا عن دورها كأكبر مشترٍ للسندات الأمريكية، وبالتالي تتخلى عن الدولار ببطء.
وبينما تواصل الصين التركيز على بناء اقتصادها وردم الفجوة التكنولوجية مع أمريكا تحسّبًا لتعرّضها لحصار اقتصادي شامل، فإنّ الولايات المتحدة تبدو أنها تعيد تكرار الخطأ نفسه الذي ارتكبته بعد سبتمبر/أيلول 2001، إذ تستعدي مجددًا العالمين العربي والإسلامي وما قد يتبع ذلك من ردود أفعال وأزمات غير متوقعة قد تستنزفها.
أمريكا بيّضت وجه الصين وروسيا أمام المسلمين
وفي حين كانت الصين خلال السنوات الماضية قد اكتسبت سمعة سيّئة بسبب قمعها للإيغور، وروسيا بسبب دورها في الأزمة السورية خاصة لدى كثير من الليبراليين والإسلاميين العرب، فإنّ هذه المشاعر تكاد تتلاشى مع الموقفين الصيني والروسي الإيجابيين من الصراع بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
جملة من المكاسب المجانية تقدّمها واشنطن لروسيا والصين، بسبب العمى الاستراتيجي والأخلاقي
في المقابل، بات اليوم هناك إجماع على أنه لا شيء يضاهي ازدواجية المعايير الأمريكية والأوروبية، وحتى أشد المعجبين بالنموذج الأمريكي وأكثر الحالمين تعلّقًا بالهجرة للغرب يشعر بضغينة غير مسبوقة تجاه أمريكا وأوروبا اللتين تدعمان الإبادة الجماعية بغزّة، في وقت يحتاج فيه الغرب للأيدي العاملة الشابة من العالم العربي والجنوب العالمي لتعويض شيخوخة سكانه.
إننا أمام جملة من المكاسب المجانية تقدّمها واشنطن لروسيا والصين، وكل ذلك بسبب العمى الاستراتيجي والأخلاقي في قضية تكاد تكون هي الأوضح في عدالتها في العصر الحديث.
(خاص "عروبة 22")