وربما يكون تقديم فرع "ماكدونالد" في الكيان الصهيوني لوجبات مجانية لجنود الجيش الصهيوني المهاجم لغزّة، فضلًا عن توطين عدد من الفروع في المستدمرات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، هو الشرارة التي أشعلت الغضب العربي وأعادت إطلاق الدعوة القديمة-الجديدة بمقاطعة الداعمين للكيان الصهيوني الغاصب.
وكانت الحكومات العربية الوثيقة الصلة بالولايات المتحدة والتابعة لها قد تكفّلت بتفكيك تلك المقاطعة التي قرّرتها جامعة الدول العربية وكانت تشمل مقاطعة الكيان الصهيوني ومنتجاته كليًا (مقاطعة الدرجة الأولى)، ومقاطعة الشركات المتعاملة مع الكيان الصهيوني والداعمة له (الدرجة الثانية)، ومقاطعة الشركات المتعاملة مع الشركات الداعمة لذلك الكيان (الدرجة الثالثة).
قوائم المقاطعة وحدودها وجدواها
طرح الداعون للمقاطعة قوائم بالمنتجات والشركات التي ينبغي مقاطعتها. وكان التركيز الموفق على الشركات المنتجة للسلع والخدمات التي توجد بدائل محلية كاملة لها، إيذانًا بإيقاع خسائر فادحة بتلك الشركات، حيث لا يوجد ما يضطر المقاطعين إلى كسر المقاطعة. وشملت القائمة شركات المياه الغازية والمعدنية الأمريكية والأوروبية ومطاعم اللحوم المصنّعة والدجاج والبيتزا الأمريكية، وسلسلة "كارفور" الفرنسية التي تقدّم تبرّعات للكيان الصهيوني وتوزّع أكياس المواد الغذائية المجانية على جنود الجيش الصهيوني، وسلسلة مقاهي "ستاربكس" الأمريكية التي تقاضي نقابة العاملين فيها في نيويورك بسبب إعلان دعمها للشعب الفلسطيني، وشركة "أمازون" التي أعلن رئيسها تأييده للكيان الصهيوني، وبعض شركات السيارات الأمريكية والأوروبية وبخاصة الألمانية، وسلسلة محطات الوقود الإماراتية التي تنتمي لبلد عربي لكنه وثيق التعاون مع الكيان الصهيوني، وغيرها من الشركات التي لا توجد لها علاقات مباشرة مع الجمهور ويتم الإعلان عن مقاطعتها بشكل رمزي.
المقاطعة الشعبية والبدائل
تعد المقاطعة الشعبية العربية لمنتجات وخدمات الشركات الداعمة للكيان الصهيوني، عملًا نبيلًا وفعالًا في إيقاع الخسائر بتلك الشركات والضغط عليها لتغيير مواقفها الداعمة لذلك الكيان. وربما يصل الأمر إلى إخراج بعض تلك الشركات من الأسواق العربية على ضوء خسائرها الجسيمة بسبب المقاطعة الشعبية لها، خاصة لو استمرت تلك المقاطعة دون تراخي أو تساهل في ظل وجود بدائل محلية كاملة لمنتجاتها وخدماتها. وحتى المنتجات القادمة من الدول الداعمة للكيان الصهيوني والتي لا توجد بدائل محلية لها مثل الأدوية والأغذية وبعض السلع عالية التقنية، يمكن الاعتماد على شركات غير مؤيدة للكيان الصهيوني في الغرب، وعلى البدائل المناظرة لها والمستوردة من الدول الداعمة للحقوق الفلسطينية أو على الأقل غير الداعمة للكيان الصهيوني الفاشي. كما يمكن في المدى الطويل استنهاض استثمارات جديدة تعمل على إنتاج بدائل للواردات ضمن استراتيجية شاملة للإحلال محل الواردات.
حملات المقاطعة خلقت موقفًا وطنيًا داعمًا لاستهلاك المنتجات المحلية البديلة
وهناك شركات تم الكشف عن خسائرها الجسيمة وتدهور أسعار أسهمها بسبب المقاطعة العربية مثل "ستاربكس" التي فقدت 12 مليار دولار من قيمتها السوقية، وأخرى تحاول التستر على تلك الخسائر لإحباط حملات المقاطعة، أو تحاول فروعها المحلية التنصل من موقف الشركة الأم الداعم للكيان الصهيوني وتعلن دعمها للشعب الفلسطيني في غزّة، دون أن يوقف ذلك موجة المقاطعة الشعبية لها لأن الأصل هو موقف الشركة الأم. وقد تؤدي المقاطعة العربية لبعض الشركات إلى خروجها من الأسواق العربية وربما انهيارها كليًا. كما أنّ حملات المقاطعة خلقت موقفًا وطنيًا داعمًا لاستهلاك المنتجات المحلية البديلة، وهي فرصة لأي رأسمالية وطنية لديها القدرة الاقتحامية لشغل مواقع الشركات الأجنبية التي سيخرج البعض منها من الأسواق العربية بفضل المقاطعة الشعبية لمنتجاتها.
لكن مقابل نبل الشعوب العربية في مقاطعتها لشركات الدول الداعمة للكيان الصهيوني ولذلك الكيان نفسه وهو ما تستطيع فعله دون الرجوع لحكوماتها، فإنّ النظم السياسية الحاكمة في الدول العربية لم تعلن أي موقف في هذا الاتجاه. كما أنها لم تقطع أو حتى تجمّد علاقاتها مع ذلك الكيان الفاشي مثلما فعلت دول أمريكية لاتينية. وهي مستمرة في فتح أسواقها للسلع الواردة من تلك البلدان، وللاستثمارات المباشرة وغير المباشرة القادمة منها والتي أتاحت للرأسماليات الغربية، السيطرة على قطاعات مهمة من الاقتصادات العربية بصورة تقيّد الفعل الشعبي العربي ضد منتجات تلك الشركات المحلية المملوكة لشركات ودول أجنبية داعمة للكيان الصهيوني، حيث يصبح العدو تحت الجلد والتعامل معه إجباري إلى أن تظهر شركات وطنية بديلة ومنافسة. وحتى الرأسماليات التقليدية في الوطن العربي فإنها تعمل بالأساس في ترويج منتجات الرأسمالية العالمية أو تجميع مصنوعاتها، وتفتقد لآباء الصناعة والاقتصاد الطامحين للاستقلال والندية مع الرأسمالية العالمية على غرار طلعت حرب وتجربته الفريدة في مصر.
ملكيات الأجانب وخريطة المقاطعة المطلوبة
تمكن الأجانب وبخاصة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة من السيطرة على عدد كبير من الشركات العامة التي طرحتها بعض الدول العربية للخصخصة في عمليات انطوت في غالبيتها على مستويات مروعة من الفساد وإهدار المال العام المملوك للشعوب العربية مقابل منافع ورشى للبيروقراطية الحكومية السياسية والإدارية المسؤولة عن عمليات الخصخصة. كذلك أسّس الأجانب أو اشتركوا في تأسيس استثمارات جديدة. كما أنّ الكثير من الصناعات العربية مثل غالبية شركات صناعة السيارات هي مجرد صناعة مفك لتجميع مكوّنات واردة من الخارج.
وقد بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتراكمة حتى عام 2022 في كل من السعودية، والإمارات، ومصر، ولبنان، والمغرب، وعمان، وتونس، والأردن، والبحرين، والجزائر، والسودان، وقطر، وليبيا، والكويت، وموريتانيا بالترتيب نحو 296، 194,3، 148,9، 70,5، 63,3، 49,6، 39,5، 38,4، 35,4، 34,1، 30,3، 27,6، 18,5، 15,1، 12,2 مليار دولار، وذلك وفقًا لتقرير الاستثمار العالمي (2023).
أما الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة أو ملكيات الأجانب من الأسهم المتداولة في البورصات العربية، فإنّ حجمها ضخم ويتجاوز نصف القيمة السوقية للأسهم المدرجة في بورصات الدول العربية المنفتحة في هذا المجال والتي تعاني من العجز المالي، مثل مصر ولبنان والمغرب وتونس والأردن، بينما يقتصر على نسبة أقل من إجمالي قيمة الأسهم في دول الفائض المالي العربي في الخليج حيث تصل النسبة إلى 14,2% في السعودية، ونحو 12% في دبي، و 16% في أبو ظبي، سواء لوجود عوائق قانونية، أو لتوفّر الأموال المحلية اللازمة للتمويل ولتداول الأسهم في بورصات تلك البلدان، وإن كانت تلك الدول إما منخرطة بعمق في التطبيع مع الكيان الصهيوني ولا تسمح بأي مقاومة شعبية محلية لذلك، أو كانت تسير في مسار سريع للتطبيع مع ذلك الكيان والذي تجمّد بسبب حرب الإبادة الصهيونية على الشعب الفلسطيني في غزّة وما تلاها من تضامن شعبي عربي جارف مع الشعب الفلسطيني ضد الكيان الفاشي الغاصب والمعادي للإنسانية.
هذه الأزمة تؤكد ضرورة اعتماد استراتيجية اقتصادية تقوم على الإحلال محل الواردات لتحسين منعة الاقتصادات العربية
وعودة للقيمة الكبيرة للاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة في البلدان العربية والمشار إليها آنفًا، والتي يأتي الجانب الأكبر منها من الدول الغربية الداعمة للكيان الصهيوني، فإنها تعني أنّ الكثير من المنتجات السلعية والخدمية في داخل البلدان العربية نفسها تنتج من خلال شركات أجنبية بالكامل أو من خلال شركات مشتركة يساهم فيها الأجانب باستثمار مباشر أو غير مباشر. وبعض تلك الشركات يعد شريكًا اقتصاديًا قويًا للكيان الصهيوني، أو يقدّم الدعم المالي المباشر له، أو يوطّن استثماراته في المستدمرات الصهيونية الإجرامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 مثلما هو الحال بالنسبة للشركات الأمريكية المنتجة للمشروبات الغازية والوجبات السريعة من اللحوم المصنّعة والدجاج وغيرها من الشركات. كما يوجد بينها شركات ضخت استثماراتها في الاقتصادات العربية لتبادل المنافع دون أن تكون من مقدّمي الدعم المالي المباشر للكيان الصهيوني أو من المستثمرين في المستدمرات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
وترتيبًا على ذلك، يجب التمييز بين تلك الشركات في تحديد خريطة المقاطعة لمنتجات الدول الداعمة للكيان الصهيوني، فالمقاطعة يجب أن تنصب بالأساس على داعمي ذلك الكيان، وعلى كل المنتجات التي توجد بدائل محلية لها، أو بدائل قادمة من بلدان اتخذت مواقف سياسية وإنسانية رافضة لحرب الإبادة الصهيونية على الشعب الفلسطيني في غزّة وللاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية مثل روسيا، أو البدائل القادمة من بلدان مثل إسبانيا وبلجيكا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا. وفي كل الأحوال فإنّ هذه الأزمة تؤكد ضرورة اعتماد استراتيجية اقتصادية تقوم على الإحلال محل الواردات لتحسين منعة الاقتصادات العربية وجعل التبادل التجاري غير النفطي متوازنًا ويمكِّن الدول العربية من عقاب من يعتدي على شعوبها وحقوقها لأنّ العجز الراهن في ذلك التبادل بلغ 306 مليار دولار عام 2021، وهو عجز كارثي يغطيه فائض متذبذب لتجارة سلع أولية واستخراجية هي الوقود والمعادن.
(خاص "عروبة 22")