منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قتل جيش الاحتلال نحو 90 صحفيًا، وتعرّض العشرات من فرق التغطية إلى إصابات بالغة، كما لم تسلم عائلاتهم من عمليات الانتقام الممنهج، إذ تعرّضت منازل أكثر من 12 صحفيًا للقصف المباشر، ما أسفر عن استشهاد وإصابة المئات من أبنائهم وأقاربهم وجيرانهم.
كانت آخر جرائم الجيش الإسرائيلي في حق الصحفيين، استهداف مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح ومصوّر القناة سامر أبو دقة الذي ارتقى شهيدًا بعد أن منعت قوات الاحتلال سيارات الإسعاف من الوصول إليه لمدة 6 ساعات، وتركته ينزف حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، رغم مناشدات أطلقتها "الجزيرة" لكل المؤسسات والهيئات الدولية ذات الصلة، ورغم التواصل مع الحكومة الإسرائيلية ومطالبتها بالتدخل لإنقاذه.
الدحدوح وأبو دقة وأطقم الدفاع المدني كانوا جميعًا ضمن بنك أهداف الاستخبارات الإسرائيلية
قصف مدرسة فرحانة بخان يونس نهار الجمعة الماضية، لم يكن ضمن عمليات القصف العشوائي التي تستهدف بها إسرائيل قتل المدنيين الأبرياء حتى تكسر إرادة الغزّيين، بل تم عبر صاروخ أُطلق من طائرة استطلاع إسرائيلية مزوّدة ببرامج ذكاء اصطناعي حديثة وكاميرات متطورة تُستخدم في إجراء مسح ثلاثي الأبعاد للمباني، ويمكنها تحديد هوية الأشخاص عبر خوارزميات الرؤية الحاسوبية، ما يعني أنّ الدحدوح الذي نُقل للعلاج بإحدى المستشفيات وزميله سامر أبو دقة الذي استُشهد بعدما صُفيت دماؤه مع 3 من أطقم الدفاع المدني، كانوا جميعًا ضمن بنك الأهداف التي حدّدتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية سلفًا.
إذن؛ لم يقتل جيش الاحتلال الصحفيين عن طريق الخطأ، بل تقوم قواته بإعدامهم مع سبق الإصرار والترصد، انتقامًا منهم على فضحهم الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين العزّل، ما يكشف حقيقة الدولة العبرية التي طالما تغتّنت بأنها دولة قانون تحترم الحقوق والحريات وتتبنّى مبادئ الديمقراطية في منطقة لم تقِم أنظمتها للحرية ولا للديمقراطية وزنًا.
تثأر إسرائيل أيضًا، من الصحفيين لأنهم كشفوا ستر "الجيش الذي لا يُقهر"، وبيّنوا كيف انهار ذاك الكيان الذي يُصنّف ضمن أقوى 18 جيشًا في العالم، أمام مجموعة من المقاتليين غير النظاميين مُسلّحين بأسلحة بسيطة، ما هزّ من مكانته وأضرّ بهيبته أمام أعدائه وحلفائه من دول الإقليم الذين ظنّوا لعقود أن لا طاقة لهم بتلك القوة.
ورغم قواعد القانون الدولي الإنساني وبنود اتفاقية جنيف التي تنصّ على حماية الصحفيين خلال النزاعات المسلّحة، إلا أنّ جيش الاحتلال أعلن أنه لا يستطيع ضمان سلامة الصحفيين في غزّة، داعيًا من يسعى إلى أداء مهامه في تغطية الأحداث من الصحفيين أن يكون خلف خطوط قواته باعتبارها مناطق آمنة.
جيش الاحتلال لم يقصد بدعوته حماية الصحفيين، بل أراد أن يضمن فرض سرديّته وبثّ أكاذيبه وادعاءاته عمّا يجري، فيما تظل المآسي التي تقع على الجانب الآخر مدفونة تحت أنقاض المباني المقصوفة في القطاع، وهو ما لم يقبله الصحفيون الفلسطينييون الذين يعملون في منصات إقليمية ودولية، فاتهمهم وزير الإعلام الإسرائيلي شلومو كارهي بـ"التواطؤ" مع المقاومة الفلسطينية.
ففي محاولة منه لإرهاب منصّات الإعلام التي تعمل من غزّة، نشر الوزير الإسرائيلي رسالة على حسابه بموقع "أكس" اتهم فيها وسائل إعلام دولية، بتوظيف مراسلين كانوا على علم مسبق بمعلومات عن هجوم "طوفان الأقصى"، الذي شنّته "حماس" وفصائل المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كارهي قال في تدوينته، موجّهًا حديثه إلى منصات صحفية: "قد نما إلى علمنا أنّ بعض الأفراد داخل مؤسّستكم، بما في ذلك المصورون وغيرهم، كان لديهم معرفة مسبقة بهذه الأعمال المروّعة، وربما حافظوا على علاقة مثيرة للقلق مع الجناة"، وهو ما تمّ تفسيره من صحفيين في غزّة بأنها "محاولة ابتزاز لنتوقف عن أداء عملنا، أو لتبرير استهدافنا وقتلنا باعتبارنا متورّطين مع المقاومة".
اللافت أنّ صوت بعض المنظمات والهيئات المعنية بالدفاع عن حرية الصحافة وحقوق الصحفيين، بدا خافتًا خلال تلك المعركة، للدرجة التي دفعتها إلى التلاعب في أرقام شهداء الصحافة في فلسطين وجنوب لبنان خلال الشهرين الأخيرين، بدعوى أنهم "لم يُقتلوا أثناء أدائهم واجبهم بل قُصفوا في منازلهم مع عائلاتهم"، وهو ما يتناقض مع وقائع وشهادات وثّقتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين والاتحاد الدولي للصحفيين الذي وصف قطاع غزّة بأنه "مقبرة للصحفيين".
هي "جريمة حرب" بحسب توصيف خبراء القانون الدولي، لكن جنود الاحتلال كالعادة سيفلتون من العقاب
فقبل أيام أصدرت منظمة "مراسلون بلا حدود" تقريرها السنوي، معلنةً مقتل 45 صحفيًا فقط عام 2023 في حصيلة تساوي نصف الشهداء الصحفيين الذين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان منذ بداية العدوان.
سقط الزميل سامر أبو دقة شهيدًا بعد استهدافه بشكل مباشر ثم تركه ينزف لساعات، هي "جريمة حرب" بحسب توصيف خبراء القانون الدولي، لكن جنود جيش الاحتلال كالعادة سيفلتون من العقاب، وحتى لو تم إحالة بعضهم إلى وحدة المحامي العام العسكري الإسرائيلية المعنية بالتحقيق في اتهامات ارتكاب الجنود الإسرائيليين جرائم بحق مدنيين، فلن توقع عليهم أي عقوبات كما حدث في عشرات القضايا السابقة، فإسرائيل لا تحاكم جنودها بتهمة القتل العمد أو غير العمد لصحفي، إذ تنظر إلى جنودها على أنهم "أبناء وبنات الأمّة اليهودية الذين يقومون بواجبهم في الدفاع عن الدولة اليهودية"، بحسب ما صرّح قادة صهاينة في أكثر من واقعة.
(خاص "عروبة 22")