لمّـا كان الوجـود الاجتماعيّ لأيّ جماعـةٍ أو شعبٍ أو أمّـة يفرض، باستمرار، مصالحَ مستَـجَـدّة يُحتاج إلى تحقيقها وإشباعها، كانتِ الحاجـةُ إلى الوحدة تَعْـظُم بالتّـبِعة ويتّـسع نطاقُ الوعي بها في الاجتماع العربيّ المعاصـر لأنّها - بكـلّ بساطـة - موردُ قــوّةٍ استراتيـجيّ لتعظيم القدرة الذّاتـيّـة على أَمْـكَـنَـةِ المصلحة (= أو جعلها في الإمكـان).
وتُـظْهِـرنا الخـبرةُ التّاريخيّـة المعاصرة على حقـيقـةِ ما تَـقْـوى عليه وحـدةُ الإرادة العربيّـة - حتّى في حدودها الرّمـزيّـة - من تحصيل المكاسب كلّـما أمكـنَ العربَ، دولاً ومجتمعاتٍ، إعمالُها والاعتصامُ بها في جَـبْه ما يَعْـرِض لهم من جسيـمِ التّحـدّيـات. من يشكّ في هذه الحقيقة ما عليه سوى مراجعـة تجارب الماضي القريب ليقـف بِـبَـيِّـنِ الأدلّـة على صدق ذلك.
لا مكان في عالم اليوم للكيانات الصّغيرة إلاّ إنِ اختارت أن تتوحّد وتتكتّل في كُتَلٍ كبرى قابلةٍ للحياة في عصر العولمة
بروح الوحـدة والرّغبة في مغالبة معضلات التّـنميّـة وتجـاوُز حالِ الفقـر والكفاف والحرمان، أنجزتِ الدّوُلُ العربيّـة في أطرها الإقليميّـة الجامعة برامـجَ للتّـعاون الاقتصاديّ بعيدةَ الأثـرِ ما كان يَـسَعُ الواحـدةَ منها إنجازُها منفردةً؛ وبـوحـدة الإرادة والجَـهْـد واجهت تحدّيـات الأمـن القوميّ العـربيّ، وحَـدَّتْ من مخاطر التّوسّـعية الإسرائيليّة وأجبرتها على الانكفاء في حـرب أكتوبر؛ وبوحـدة المـوقف أمكنها الدّفاع - بصوتٍ واحـد - عن المصالح السّياسيّـة العربيّـة في السّاحة الدّوليّـة ومن خلال منابـرها... إلخ. جرى هـذا كلُّـه في إطارٍ "اتّـحاديّ" متواضع، هـو جامعة الدّول العربيّـة، فكيف لو اجـترح العربُ لأنفسـهم إطاراً اتّحاديًّا لهم أعلى شـأنـًا وشـأوًا نظير "الاتّحـاد الأوروبيّ"، مثلًا، أو ما يشبـهه من أطـرِ إقـليميّـة أخـرى في العالـم.
على غنى هـذه الخبرة التّاريخيّـة من العمل العربـيّ المشترك، وعلى جزيل عوائدها السّياسيّة والاقتصاديّـة والأمنيّـة، فهي غير كافيـة لتعظيم المصالح الجماعيّـة، بل هـي لا تكفي حتّى لمدافَـعةٍ ناجحـةٍ عنها في مـقابَـلةِ ما يتـهـدّدها من مخاطـر العـدوان عليها أو النّـيل منها. هـذا يطرح على العرب - دولًا ومجتمعات - التّـفكيرَ في استيلاد أطـرٍ كيانيّـة أعلى وأفْـعلِ من الأطُرِ الجماعيّة القائمـة اليوم، وأدنى منها إلى فكرة الاتّـحاد القائم على الاندمـاج الاقتصاديّ والشّـراكة السّياسيّـة (نظير "الاتّحاد الأوروبيّ" مثـلًا). ما عاد مثل هـذا الخيار تَـرَفًا يُـنْظَـر في شأنه، بل بات واجـبًا مصيريًّا يرقى إلى مستوى الفريضة: به يتـقرّر أن نكون أو لا نكـون.
كيف للبلدان العربيّة أن تضمن مصالحها وحقوقها في هذه الغابة المزدحمة بالضّواري؟
عالَـمُ اليوم يستحيـل على غير الكبار أن يعيشوا فيه؛ لا مكان فيه للكيانات الصّغيرة إلاّ إنِ اختارت أن تتوحّـد وتـتكتّـل في كُـتَلٍ كبرى قابلةٍ للحياة في عصر العولمة. إذا كانت بلدان أوروبا - وهي ما هي في التّـقدّم - قد جنحت للاتّـحاد لأنّها لا تقْـوى على الحياة والمنافسـة مع الكبار فأقامت اتّحادها القاريّ الذي سمح لها ببعض التّوازن في القـوّة مع العُظميـيْن (الولايات المتّحدة الأمريكيّـة والصّـين)، فكيف لبلدانٍ دونها حظًّا من القـوّة والتّـقـدُّم، مثل البلدان العربيّـة، أن تضمن مصالحها وحقوقها في هـذه الغابـة العولميّـة الهائلة المزدحمـة بالضّواري؟
إنّ العـولمة تطرق أبـواب الوطـن العـربيّ، بـقـوّةٍ وعنف، بل هي تستبيـح داخـلَه القـوميّ - أو دواخـلَه الوطنيّـة - فتطرح على دُولـه ومجتمعاته سـؤالَ الوجـود: وجـود جماعـةٍ قـوميّـةٍ في التّاريخ اسمها العرب؛ تكون أو لا تكون.
(خاص "عروبة 22")