بصمات

المفاهيم ليست سائبة: نحن طرفٌ في الصراع

ليس من شأن أحدٍ أن يحدَّ حركةَ الفكر في المجتمع، ولا أن يفرِضَ توجُّهات المفكرين وآراءهم في الحياة والعالم. إن حَرِّيَّة التفكير أمرٌ لا جدال فيه لبناء الذوات الإنسانية المتآلفة القابلة للحوار والتبادل القيمي والمعرفي والمادي. لقد وصَلَ الكونُ إلى لحظةٍ لا يمكن فيها بناء تصوُّرٍ فريدٍ للعيش والحياة، من دون اشتراك الآخر في هذه الفرادة، أي لم تعُد الفرادةُ ممكنةً إلا ابتداءً من الانسجام التقاني والوجداني بالمألوف. نعم، إن المجتمع الشبكي اليوم قد يأكلُ الإنسانَ بقُدرة الإنسانِ نفسه، كأنَّ الأمورَ تجري آليًّا من دون إرادة.

المفاهيم ليست سائبة: نحن طرفٌ في الصراع

لقد أصبحَ الخطابُ السياسي، أولًا، وهو أكثرُ الخطابات تأثيرًا في التغيير لوضعيَّة الإنسان في العالم، من أشرَسِ الخطابات بُعدًا عن إمكانات الأخلاق الخيرية المطلقة التي يعرفها البشر. إن الخيرَ غير ممكنٍ حدوثه في سياسة العالم التي تمارسها الدول الكبرى اليوم، فهو ليسَ من القيم الكبرى في ذهنية الفاعلين في الشأن السياسي المطلق! إنَّ الربح والفوز والهيمنة والتسلُّط وغيرها من القيم التي لا تَتَدرَّج في التعالي والتفوُّق والتقدم نحو الأعلى هي التي تحكم الناس، مِن دون أي سلطة شرعية. لا يقدِرُ أحدٌ على اختيار الإدارة السياسية للعالم، على الرغم من الانتخابات والاستفتاءات والعمليات الديمقراطية التي تجري.

التبعيَّة للخطاب السائد تشكِّلُ تسويغًا لمفاهيم ذلك الخطاب

مِن هذا الخطاب السياسي السائد علينا أن نفهمَ الواجب الأخلاقي المَنوط بالمفكِّر في أي مجتمع إنساني راهن. هذا الواجب يُملي على صاحِبِه الانشغال المُطلَق بالتفكير في صناعة المفهوم الملائم لوعي العلاقة المأزومة بالمُثُل العليا التي يحاكيها الإنسانُ عادةً في تواصُلِه الدائم مع أخيه الإنسان، والتي تقوم على التقاسُم الحرِّ للمعارف والأشياء، وفق معتقدات وقوانين وتشريعات ينتجها البشر في تأويلِهم لهذه المُثُل العليا، بحيث يصبح لكلِّ أمَّةٍ من الناس تفسيرٌ لعلاقتها بتلك القيم. هذه العلاقة الاعتباريَّة تنعكس في الإبداع والفهم للغة والدين والسياسة والاقتصاد وكل علوم الحياة التنظيمية، لذا تختلف الفُهوم بين الناس ولكن تأتلف الطرائق.

ولما كان لا بدَّ من الاختلاف حتى يتمكَّن الناس من تنويع سُبُل الارتقاء في العيش وإنجاز الرفاه الاجتماعي والفكري القادر على إحداث مُتْعَةِ الحقيقة في الواقع، فإن مِن الهشاشة الأخلاقية أن تَجِدَ المفكِّرَ العربيَّ اليوم يُسَطِّحُ المفاهيم ويستهين في صناعتها الإبداعية الحضورية في الحدث. هذه الهشاشَةُ تشير إلى ضَعفٍ في الانتماء إلى الواقِع الذي ينطلق منه هذا المفكِّر في صناعة تأويلاته، أي إلى تنازُل عن الكفاءة في أداء التفكير الحر الذي يُنتِجُ المفهوم في المعيش. وهذا التنازُل الإجرائي هو إضعافٌ لاحتمال صدور المفهوم الحر في المجتمع الذي ينتمي إليه هذا المفكر، وتدعيمٌ لتقليد المفاهيم الموجودة واتباعها، بل الترويج لها كما هي. ولما كانت وظيفةُ المفكِّر هي التجديد في الرؤية وإنماء الوسائل المؤدية إلى الحقيقة، فإن التبعيَّة للخطاب السائد تشكِّلُ تسويغًا لمفاهيم ذلك الخطاب على حساب المفهوم المُمكِن توليدُه في الحدث الراهن.

إنّ ما نقصده من هذا الوصف لهذه الذوات "المفكِّرة" هو التنبيه لمخاطِر التمسُّك الأيديولوجي بالسائد خوفًا مِن الانفتاح الحر على الممكن، وهو الدَّور الماكر الذي يمارسُه مَن لا يشعر بالانسجام مع الإنسان الشريك له في المجتمع، فتراه يطرحُ المفاهيم العمومية عن القيم، وكذلك لا تعنيه الحوادث التي تحدُثُ في مجتمعه المحلِّي ولا يرتبط بقضايا مجتمعه بأي اشتراكٍ خطابيٍّ تأسيسي إلا مِن جهةٍ واحدة وهي تعزيز الخطاب السياسي السائد على حساب صناعة الخطاب السياسي المُمكن. والخطاب السائد هنا، حتمًا يكون مهيمنًا على المجتمع المحلي، وإلا ما كان هذا الأخير يُحاوِل خِطابًا نقيضًا لمضامينه القيمية.

بين الصهيونية والحق الفلسطيني لا يمكن التنازل عن فلسفةٍ للحق المطلق

هل يُعقَل مثلًا الكلام العمومي عن قيم الحق والعدل والسلام والعيش المشترك، الآن! تحت وطأة الضربات والقذائف والتدمير والقتل الممنهج للشعب الفلسطيني في غزّة؟! أم أنه علينا التفكير في فلسفةٍ للخطاب السياسي الناجِع الذي يمكِنُ استعمالُه في معاينة الاستعصاء الحاصل في الحدث القائم؟. علينا الانتماء إلى الحدث، فنحنُ طَرَفٌ في هذا الصراع القائم، ولسنا نقِفُ على الحياد، لذا علينا أن نفهم دورنا في أداء فكرِنا القادِر على تخليصنا من شرور الصراع وإيصالنا إلى مغانم الحقيقة. فما بين الصهيونية والحق الفلسطيني في فلسطين لا يمكن التنازل عن فلسفةٍ للحق المطلق، تبعثُ التأسيس الأخلاقي الواجب للإنسانية من جديد. نحنُ مع الإنسانية.

لا يمكِنُ الاكتفاء بحيازة المفهوم في الذهن، بل يجب طرحُه في مصارعة الواقع، حتى يثبت جدارته في الحياة. لا شيء يمكِّن المفاهيم من الاشتراك في تأسيس الخطاب الضروري لبقاء الإنسان سوى الابتداء من النظَر إليها في معترَك المعيش. مفهوم الحقِّ، مثلًا، ليس تذكُّرًا لقيمٍ سالفة ولا تنازلًا عن قيمٍ ممكنة، بل هو وعي بقدرةٍ واجبة؛ وَلْتطرحِ الصهيونية ما تريد، فإن الردَّ المنطقي هو أن نطرح في المقابِل ما هو جديرٌ بالتحاور. والإنسانيةُ اليوم مفهومٌ لا بد من بنائه، أي علينا الاشتراكُ في تأسيسه وليس النظر إلى مَن يؤسِّسه فحسب، بانتظار تبعيةٍ مرتقبةٍ بعد حينٍ. ثم إنّ علينا الانتباه إلى مسوِّغات التبعية في الذهنيات المحلية الفئوية، تلك التي تبني كل تصوراتها للقيم استنادًا إلى وهم المظلومية التاريخية والخوف مِن العقل الجمعي والشعور بالدونيَّة الحضارية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن