أراد أن يقول إنّ حرب أكتوبر/تشرين الأول (1973) آخر حرب خاضها، وإنّ قوّته بعدها أخذت في الترهل والتحلّل، وإنّ ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023) كان تعبيرًا عن حقيقته الفعلية بعيدًا عن أوهام القوة وادعاءات "الجيش الذي لا يُقهر".
على المنوال نفسه ارتفعت أصوات عديدة داخل إسرائيل وخارجها تطلب النظر في المرآة والاعتراف بالحقيقة أنّ أهداف الحرب على غزّة غير قابلة للتحقق.
بعد صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول طرحت إسرائيل على نفسها هدفين محددين، "اجتثاث حماس" و"استعادة الرهائن بقوة السلاح".. ثم طرحت مشروع التهجير القسري من غزّة إلى سيناء دون جدوى.
إسرائيل تحتاج إلى نصر ما، أية علامة نصر، كأن تصل إلى قادة "حماس" بالاغتيال، حتى تستعيد ثقتها في نفسها وقدرتها على ردع وإخافة من حولها دون أن يكون ذلك متاحًا رغم حرب الإبادة المتواصلة، التي تشنّها على السكان المدنيين.
ميلاد جديد للقضية الفلسطينية سوف تعيد حساباته رسم التوازنات داخل البيت الفلسطيني وفي العالم العربي
بدأ الأمريكيون يشكون في مستوى كفاءة الجيش الإسرائيلي ويرتفع بالوقت نفسه منسوب تدخلهم في العمليات العسكرية.
هكذا طالب وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن تكون العمليات الإسرائيلية "دقيقة وأقل كلفة بشرية"!
عشوائية القصف أحرجت بخسائرها البشرية المرعبة إدارة جو بايدن، الذي وجد نفسه في مأزق سياسي لا مخرج منه، تراجع في شعبيته باستطلاعات الرأي العام قبل الانتخابات الرئاسية التي اقتربت مواعيدها، وتدهور في المكانة الدولية للولايات المتحدة غير مسبوق حين وجدت نفسها معزولة في مجلس الأمن بالتصويت وحدها ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار أجهضته بحق النقض!
الإسرائيلي يطلب مزيدًا من الوقت لحسم حرب يكاد يستحيل أن تُحسم بإرادة المقاومة وصمود شعبها.. والأمريكي يوفر الغطاء السياسي والاستراتيجي للقتل دون أن يكون لدى كليهما أي تصوّر عن اليوم التالي.
"لا الجيش ولا مجلس الحرب ولا الرأي العام جاهز لوقف النار". كان ذلك استخلاصًا إسرائيليًا شائعًا لتمديد الحرب، فالهزيمة معلنة والنصر بعيد.
بدا عجز الجيش الإسرائيلي فادحًا في المواجهات المباشرة مع مقاتلي المقاومة. عدم ثقته في نفسه أفضت إلى ما يشبه الفضائح المعلنة كقتل ثلاثة من أسراه كانوا يرفعون الرايات البيضاء لإنقاذهم بظن إنها خدعة من المقاومة الفلسطينية!
صاحب الفشل الجيش الإسرائيلي في حروب المدن والأنفاق وتكبدت قواته خسائر فادحة في الأرواح والمعدات بصورة غير مسبوقة ومهينة حتى بدأت تتردد داخل إسرائيل وخارجها إنه "جيش فاشل".
كانت تلك هزيمة مدوية لنظرية الأمن الإسرائيلي. الأسوأ أنّ سمعته تضررت على نحو يصعب ترميمه بقدر بشاعة جرائم الإبادة الجماعية، التي أسقطت عشرات آلاف الشهداء والمصابين وجعلت الحياة شبه مستحيلة في القطاع المحاصر.
يصف الجيش الإسرائيلي نفسه بأنه "الأكثر أخلاقية في العالم"، فإذا به يُضبط متلبسًا بارتكاب جرائم حرب لا مثيل لها في التاريخ الحديث من تقتيل جماعي وتجويع وتعطيش واستهداف للمستشفيات وتعرية المدنيين المحتجزين في صقيع الشتاء. إنه الأسوأ أخلاقيًا في العصور الحديثة قياسًا على الجيش النازي نفسه.
بقوة الضمير الإنساني تحركت تظاهرات واحتجاجات بمئات الألوف تطلب الحرية لفلسطين وترفع علمها في المدن والعواصم الغربية الكبرى، وداخل الولايات المتحدة نفسها.
أحيت القضية الفلسطينية من جديد وتأكدت عدالتها بتضحيات شعبها، كما لم يحدث من قبل طوال خمس وسبعين سنة كاملة من عمر الصراع العربي الإسرائيلي.
إنه ميلاد جديد للقضية الفلسطينية، حساباته وتداعياته سوف تعيد رسم علاقات القوى وتوازناتها داخل البيت الفلسطيني وفي العالم العربي بعد وقت أو آخر.
إسرائيل هُزمت أخلاقيًا واستراتيجيًا رغم فوارق السلاح وطبيعة الحرب نفسها كـ"حرب غير متناظرة" بين جيش نظامي وجماعات مقاومة.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. لا "حماس" تقوضت ولا غزّة رفعت الرايات البيضاء. هذا بذاته يقوض نظرة إسرائيل إلى نفسها وما تبقى من ثقة في "الجيش الفاشل".
الإنجاز الحقيقي في حرب غزّة، رغم تضحياتها المهولة، أنّ النصر ممكن
إنها إجابة مستجدة على سؤال عمره أكثر من نصف قرن: "ماذا لو هُزمت إسرائيل؟".
السؤال تبنّته دراسات إسرائيلية عديدة منذ حرب (1967)، رغم ما ألمّ بمصر والعرب من هزيمة فادحة.
أُخذ ذلك السؤال من كتاب أمريكي نشأت فكرته حين التقى في نيويورك ثلاثة صحفيين من مجلة "النيوزويك" على غداء عمل هم: ريتشارد تشيزنوف، وإدوارد كلاين، وروبرت ليتل، الذين غطوا أحداث الحرب من الجانب الإسرائيلي.
رغم الطابع التخيّلي لما جاء في هذا الكتاب، الذي صدر في فبراير (١٩٦٩)، إلا أنه اعتمد بالأساس على أحداث واقعية.
كان هدفه المباشر التأثير على صانع القرار الأمريكي طلبًا لمزيد من الدعم لإسرائيل، رغم كل ما حازته من سلاح ومال وما حصدته من نتائج عسكرية فاقت كل توقع.
إسرائيل دائمًا مهددة، وأمريكا دائمًا مقصرة، والعرب ينتظرون الفرصة للانتقام.
الرؤية ذاتها سوف تعاود طرح نفسها من جديد عندما يتوقف إطلاق النار رغم الدعم الأمريكي المطلق والتخاذل العربي الكامل.
أخطر رسالة أريد لها أن تتكرّس أنه لا فرصة أمام العرب لأي نصر، لا في الماضي ولا المستقبل.
الإنجاز الحقيقي في حرب غزّة، رغم تضحياتها المهولة، أنّ النصر ممكن.
(خاص "عروبة 22")