بصمات

التعليم.. والإصلاح والتحديث

لماذا استطاع اليابانيون تحقيق الطفرة النوعية التي مكّنت اليابان من الدخول الفعلي في أزمنة الحداثة، في حين أنّ العرب كانوا عاجزين عن ذلك؟.

التعليم.. والإصلاح والتحديث

كثيرًا ما يتردّد هذا السؤال عند دارسينا العرب، المنشغلين منهم بقضايا النهضة والتحديث والمؤرخين المتخصصون في دراسة التاريخ العربي المعاصر على السواء. يطرح السؤال طورًا في الصيغة الصريحة التي أوردناها، مثلما يرد في صيغ مختلفة أقل مباشرية، بيد أنّ الصيغ جميعها تفيد الاستغراب والاندهاش معًا. ومتى تساءلنا، بدورنا، عن السبب الدي يبرّر الجمع بين اليابان وبين الدول العربية في صعيد واحد – والحال أنّ أمورًا عديدة تفرق بينهم - فإنّ دارسينا ومفكّرينا يسارعون إلى القول إنّ الحامل على ذلك هو التشابه الشديد بين حال مملكة الشرق الأقصى وبين بعض الدول العربية، في القرن التاسع عشر. وفي المعتاد يُذكر المغرب في عهد السلطان محمد الرابع وابنه الحسن الأول من بعده، وكلاهما عاصرا الإمبراطور الميجي (1852 – 1912)، وتُذكر مصر في عهد محمد علي في الحقبة التاريخية ذاتها.

وحيث أنّ العمل التجديدي للخديوي محمد علي مشهورة ومتداولة في العالم العربي، وفي الشق المشرقي منه خاصة، فإننا نتحدث عن السلطانين المغربيين وعن وجه المقارنة التي يعقدها المؤرخون بين عمل كل منهما وما سلكه الإمبراطور الميجي الذي يرتبط ذكر اليابان المعاصر به (=القرن التاسع عشر بداية التاريخ المعاصر من جهة التحقيب التاريخي).

يُذكر في هذا الصدد أنّ محمد الرابع، وابنه الحسن الأول من بعده، قام باستحداث مدارس لتعلّم فنون الحرب والعسكرية، وأنه شرع في تأسيس الجيش في المغرب بحسبان الجيش مؤسسة قارة لها نظامها الحديث الواضح - وهذا صحيح. ويُقال إنّ السلطان المغربي قام بايفاد بعثات تعليمية إلى فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا قصد تعلّم فنون التدبير الحربي، في الفترة نفسها التم تمّ فيها البعثات التعليمية اليابانية إلى دول الغرب الأوروبي - وهذا صحيح أيضًا.

نحن أمام مثالين يوضحان الصلة الوطيدة بين التحديث وبين التعليم

ويذكر المؤرخون أنّ السلطان المغربي شرع بالفعل في إعادة النظر في جوانب من تدبير الشؤون الإدارية والمالية، والمؤرخ المغربي محمد المنوني يتوسّع في الحديث عن السياسة الإصلاحية (وربما الجهود التحديثية الخجولة عند السلطانين المذكورين) وذلك في مؤلّفه "مظاهر من يقظة المغرب الحديث". ومتى حملنا هذه الأقوال على ظاهرها، ومتى تأكدنا (والشواهد موجودة) على وجود بعثات طلابية مغربية في العواصم الأوروبية بجانب مثيلاتها اليابانية، فإننا نقول إنّ للجمع في صعيد واحد بين اليابان المعاصر وبين دول من العالم العربي له ما يبرره، وبالتالي فإنّ للتساؤل عن السبب الذي أفضى إلى تحقق الانتفاضة الكبرى التي شهدها بلد الشرق الأقصى وتعثر المغرب، إن لم نقل عجزه، عن إحداث النقلة النوعية عن ذلك، له ما يبرره.

لا، نذهب أبعد من ذلك، ونحن ننظر في أمر التعليم والمدرسة العمومية والصلة بين هذين الأمرين وبين الدخول الفعلي في أزمنة الحداثة، فنقول: نحن أمام مثالين يوضحان ما ألمحنا إليه في حديث سابق عن الصلة الوطيدة بين التحديث وبين التعليم، نجاح الأول (=اليابان في عصر الميجي) وتعثر الثاني ثم فشل في الثاني (=المغرب في الشطر الأخير من القرن التاسع عشر). هل كان الأمر على النحو المذكور فعلًا؟ هل الصورة هي على النحو الذي تتجلى فيه من البساطة والوضوح عند الجمهرة العريضة من دارسينا ومفكّرينا العرب؟ وبالتالي هل هذه الصورة التي استقرت في الوعي الثقافي العربي المعاصر تتوافر على أسباب الصحة فتحمل على الاطمئنان إليها؟

الحق أنّ التساؤل عن أسباب النجاح "هناك" (=اليابان)، وفشلها "هنا" يقوم على أوهام استقرت في الوعي العربي، أوهام تتصل بمعضلات " النهضة" و "التحديث" في الوجود العربي المعاصر اتصل بالفكر خاصة - مما لا مجال للحديث عنه في هذا المقام. وكما هو الشأن في الأوهام فإنّ نشأتها تتصل بالجهل وما هو أعمق من الجهل، أي إرادة التخلّص من الجهل.

مفهوم "المدرسة العمومية" والتعليم العمومي كانا غائبين في المغرب مثلما كان غائبًا في كل بلادنا العربية

نفيد من الدراسات الرصينة التي تتعلق باليابان المعاصر (ومن أجودها وأهمّها الكتاب الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان "أصول التحديث في اليابان" لمؤلفه محمد أعفيف) أنّ الطفرة التي تحققت في عهد الميجي هي ثمرة سيرورة طويلة ترجع إلى القرن السابع عشر، على الأقل وبالتالي فإنّ للطفرة جذورًا عميقة أهمّها البدء الفعلي في انتشار التعليم العمومي وبناء المدرسة العمومية، ومنها أيضًا التدني المتنامي في أعداد الأميين. على سبيل المثال كانت نسبة المتعلّمات في اليابان في مطلع القرن 19 أدنى منها في بريطانيا وفرنسا.

ولا يتسع لدينا المجال لبسط الأمر أكثر من هذا. بيد أننا نجمله في فكرتين أساسيتين؛ أولاهما أنّ "بنيات استقبال الحداثة" كانت في اليابان أقوى وأجود منها في المغرب في عصر الميجي - الحسن الأول. وثانيها أنّ مفهوم "المدرسة العمومية" والتعليم العمومي كانا غائبين في حالة المغرب مثلما كان غائبًا في كل بلادنا العربية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن