بصمات

الفيلسوف بين الانتماء والالتزام: الحرب على غزّة مِحَكًّا

"أعلن علماء من كلية علوم النّبات في جامعة تل أبيب، في الأيام الأخيرة، أنّهم سجّلوا بميكروفونات خاصة حسّاسة بالموجات فوق الصوتية صرخات الألم التي تصدرها النّباتات عند قطعها أو عندما تفتقر إلى الماء. في غزّة لا توجد ميكروفونات!" الفيلسوف الإيطالي جيورجو أغامبين.

الفيلسوف بين الانتماء والالتزام: الحرب على غزّة مِحَكًّا

ليست الأفكار هي فقط من تتحكَّم في الواقع، بل الوقائع هي التي تَكسّر الأفكار أيضًا، وبالتَّالي، فإنّ الحقيقة ليست تطابقًا للفكر مع ذاته، وإنما تطابقه مع الواقع أيضًا، وعليه، فالحقيقة لا تدرَك فقط بالتصوّر والفكر، وإنما في الفعل المتحرّك الصَّدوق الذي تنكشف معه الأفكار في الفكر، وفي الحياة أيضًا، وليس شيئًا أكثر من الفيلسوف مُطَالب بالوفاء لهذه المهمة، مهمة البحث عن الحقيقة نظريًا، وإنجازها فعليًا، والدِّفاع عنها في وجه الخداع والزّيف.

ونحن نروم من وراء هذه التَّقْدُمَةِ، لفت النّظر إلى أنّ مشروع الفيلسوف لا يكتسب قيمته وأهميته، من اقتداره على التَّحليل، واستجلاب أعتى أدوات المعرفة، ولا حتىَّ ابتكار المفاهيم، وإنَّما من مواقفه، التي هي من تحدِّد قيمة مشروعه من ناحية التَّداول العالمي، ذلك أنّ العقل العملي، هو أمتن وأرسخ من العقل النّظري، فموقف جون بول سارتر Jean-Paul Sartre1905/1980 الذي ناهض الاستعمار الفرنسي للجزائر، وقال كلامه المشهور "على فرنسا أن تتحرَّر من فرنسا" هو أمتن من تحليلاته النظرية حول حتمية الحرية مثلًا.

من المفروض أنّ الفيلسوف يكون صوته صادحًا ضد التوحُّش والهمجية وقتل الأطفال

إننا اتَّخذنا هذا المدخل، كي نمهد الأرضية لفكرتنا الحاسمة خاصة في هذه الظُّروف التي يمر بها العالم، فما يتراءى أمامنا، ليس الإقرار، بأنَّ العقل والتعقُّل هو من يتقدَّم بالإنسان نحو الأفضل، ولم يصبح التنوير هو الاستزادة من المعرفة وتربية الجنس البشري، وليست سمة العصور الحديثة والمعاصرة هي الحرية، بل ما يحدث هو ضديد هذه المُثل رأسًا؛ فالعقل التقني ابتكر الطَّائرات لأجل إبادة الأطفال في حرب الكيان الصُّهيوني على غزّة حاليًا، وما تدمير الجامعات والمستشفيات إلاَّ إشارة قوية على هدم مراكز العلم والتربية والاستطباب، والحرية باتت أقصوصة مسلية للأجيال المعاصرة، فالحرية هي حرية الأقوى في مقابل الأضعف، حرية أنَّني، أنا من يعيّـن معاني الأشياء وأسماءها ومراتبها، حرية أنّني أقسو وأفتك واعتدي من غير معيار خارج ذاتي، سوى المعيار الذي أراه أنا من منظوري ومنظور حريتي.

ولأنَّ الأحداث هي بهذه المواصفات، فمن المفروض أنّ الفيلسوف يكون في طليعة الذين يُذَكِّرونَ الإنسانية بالقيم المنسية؛ ويكون صوته صادحًا ضد التوحُّش والهمجية وقتل الأطفال، لكنَّ الشيء الذي يظهر بعد إشراق الشَّمس وذوبان الجليد وانكشاف الحقائق، أنّه ليس فيلسوفًا إلا من حيث التَّكوين النّظري والسِّياق الحضاري الغربي، أمَّا العمل والمواقف، فهي لا تعنيه، والأشنع هو الانخراط ضمن سياسة خفية للدِّفاع عن اللاَّعقل واللّاحرية واللّاإنسانية، فعجيب إذن هذا الأمر، كيف يدعو صاحب "المسألة الأساسية في الفلسفة هي مسألة العقل(1)" إلى اللّاعقل؟ وكيف يسترهب صاحب "الفكر المعقد" والتَّضامن والمسؤولية الأخلاقية إرادة المقاومة في التحرّر باعتبارها الوجه الحي للمقاومة في فلسطين(2)؟.

وهذا الإقرار يدفعنا إلى إعادة التفكير في ثنائية الفيلسوف بين المعرفة والإرادة، أو بين الانتماء والالتزام، ويدفعنا أكثر إلى الخصائص التي يؤثر بها هذا النّمط من التّفكير على الفكر الفلسفي، وعلى آمال الإنسانية في مجتمعات عادلة أو مدن فاضلة، فيمكن القول، إنّ السّياسي تخونه مصالحه، والاقتصادي تتغلّب عليه أرباحه والدّيني قد ينتصر لمعتقده، لكن أن يتم الانحياز إلى العنف في مقابل العقل أو التوحُّش في مقابل الإنسانية، فهذا إضرار بليغ بالآفاق التي بقيت فضاءً صامدًا للضيافة واللّقاء بين الإنسانية وهي: فضاء بيوت الفلسفة!.

فكيف إذن تؤثر هذا الاتجاهات والمواقف اللّاعقلانية التي بدرت من فلاسفة مثل يورغن هابرماس وإدغار موران وسلافوي جيجيك على عالم العقلانية وفضاء المشترك العقلي بين الإنسانية؟

أولًا - التَّشريع الفلسفي للعنف: من المعلوم في دوائر الفلسفة أنّ ضديد العقل هو العنف، فإذا كان المتعقل يبني أحكامه بالاستناد إلى الدَّليل العقلي والحجة المنطقية، فإنّ العنيف يتأبّى عن بناء أحكامه وفق هذه المحددات، وإذا كان المتعقّل يدعو إلى السُّلوك الأخلاقي بالتربية العقلية والنَّفسية والجسمية وبأساليب: التَّشجيع والحب والتَّعاطف؛ فإنَّ العنيف يبنيها على التَّرويض والإكراه والعَسَفِ والقهر والتّضييق على النّفس في انبساطها. وبهذا، فإنّ الفارق بين المنهجين ساطع. وعندما ينحاز الفيلسوف إلى الجهة العنيفة ويتعاطف معها، ويصف الجهة المقابلة بالإرهاب، فهو يقع في تناقض شديد، فالفلسفة بهذا تشرّع للعنف وتُسَوٍّغ لممارسته، وكأن تلك الأبراج من المعارف التي بناها هابرماس أو إدغار موران تنسفها مواقفه نسفًا، فتذرها قاعًا صفصفًا؛ لا أفكار فيها ولا اجتهادات ولا إبداعات؛ وينقلب بهذا؛ على تاريخ من الاشتباك النَّقدي والتَّحليلي مع قضايا العقلانية والتَّواصل والهوية الإنسانية والتربية والأخلاق، ويشرع في التَّأريخ لنمط من الفكر ملتحم مع إرادة العنف.

ثانيًا - قَبْلِية الانتماء وبعدية الالتزام: ليس من تفسير لهذا التَّواطؤ مع العنف إلا بِنِسْبِةِ الفيلسوف إلى الانتماء قبل الالتزام، أو تجذُّر الفكر وانغراسه في الهوية الثقافية باعتبارها أصل الأفكار والتفكير، فالبرّغم من أنّ ظاهر التفلسف هو العقل والكلي والحقيقة، فإنّ باطنه هو تحويل الإيمان الديٍّني إلى عقلانية فلسفية وممارسة هذا الحق، مع عدم الإقرار لغيره بممارسة الحق نفسه أيضًا، فإذا كان إدغار موران في سلسلة المنهج قد تبنّى المفهوم المركّب للهوية، وانتصر للأصول البيولوجية للهويات الإنسانية، فإنه في حرب غزّة ينتصر لانتمائه اليهودي في سياق الصراع بين إسرائيل وفلسطين، والأكثر هو استرهاب حماس من غير وعي للسياق، فإدغار موران هنا، وقع فيما ظل يحاربه وانتهك معايير تفكيره، فهو دومًا يربط الفكر بالسياق ويعطي المكانة الأساسية للسياق ودمج العلوم بالأحداث، إلاّ أنّه أصيب بالعمى المعرفي هنا، ولم يطبق قاعدة السياق والتركيب والتعاطف التي ناضل لأجلها، فما لفت انتباهه هو فقط ردة فعل المقاومة على تاريخ من الاحتلال والاعتداء في يوم 7 أكتوبر 2023، ونسي هذا التاريخ، بينما أصول تفكيره تضرب في عتيق الفكر وماضيه، وأقصد: هيرقليطس، الذي انتهل منه عديد المفاهيم. فكيف ينسى تاريخ التوحّش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين ويتذكَّر هيرقليطس الذي ينتمي تاريخيًا إلى مرحلة ما قبل سقراط!  

المُماثلة بين القاتل بالفطرة والتاريخ، وبين الضَّحية، فيه عمى في الفهم والتَّحليل والتَّفسير

ثالثًا - الإخلال بالمشترك  العقلي والوجداني الإنساني: رغم ارتباط الفلسفة بالسِّياقات الثقافية والتحديات الاجتماعية الخاصة، فإنّ فيها المشترك العقلي والوجداني الذي هو خيط الرّبط بين العقول، ومنبر التواصل أيضًا، لكن عندما يسترهب فيلسوف ما المقاومة أو يماثل بين تصريحات الفلسطينين من "حماس" ورئيس الكيان الإسرائيلي، كما قال ذلك سلافوي جيجيك(3) (والذي كان ضد الرأسمالية الجديدة، ومكافح ضد الصِّراعات الثقافية؛ ونَسَبَها إلى سوء التوزيع للثروة والنزاعات السياسية)، فإنّنا نتفاجأ به كما قلنا، مماثلًا بين دولة عتيدة في إمكاناتها، وبين حركة مقاومة لا تملك من الأسلحة إلا الروح والإيمان بعدالة القضية؛ فالمُماثلة بين القاتل بالفطرة والتاريخ، وبين الضَّحية، فيه سوء فهم وعمى في الفهم والتَّحليل والتَّفسير، وبهذا كان من المفروض أن تكون غزّة هي المشترك العقلي بين الفلاسفة، لكن نتيجة لانتصارهم للانتماءات والخيارات العمياء، يُدمّرون المشترك، ويفتحون الأبواب نحو نهاية الفلسفة كأفق للضيافة واللقاء بين الفلاسفة عبر العالم، حتى عندما تسمع تحليلاته بشأن الاحتلال الصهيوني لفلسطين يساورك الشك أنّ هذا فيلسوف أو من أصحاب الفطر الفائقة.

وغير بعيد عنه هابرماس الذي شرّع للعنف والعدوان الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينين؛ مُسَوِّغا ذلك، بحق الدِّفاع عن النّفس وقوله البئيس؛ إنَّ اتهام إسرائيل بالإبادة هو عداء للسامية، هو ضيق في الرؤية ضعيف، فهابرماس عندما يتعلّق الأمر باليهود يستدعي الذاكرة الانتقائية؛ أي تهمة العداء للسامية، ولما يتعلق الأمر بالإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزّة، يختزل الأمر في هذا السياق من غير توسعة الرؤية تقول جوديت بتلر مؤلفة كتاب قوة اللاّعنف، ومقاربتها أكثر وجاهة وإنسانية "إذا كانت أهوال الأيّام الأخيرة تكتسب أهمية أخلاقية أكبر لوسائل الإعلام من أهوال السنوات السبعين الماضية، فإنّ الرد الأخلاقي في الوقت الحالي يهدد بحجب فهم الظّلم الجذري الذي تحمّلته فلسطين المحتلة والفلسطينيون المهجّرون قسرًا - فضلًا عن الكارثة الإنسانية والخسائر في الأرواح التي تحدث في هذه اللّحظة في غزّة"(4).

عالم ما بعد غزّة فلسفيًا هو عالم الوعي من الدرجة الثانية

تبيّن لنا إذن، أنَّ الفيلسوف المعاصر بهذه المواقف المنتصرة للكيان الإسرائيلي من غير توسعة الرؤية وفهم السياق، نجده يُخل بفضائل الفكر الفلسفي وبالقيم التي ناضلت لأجلها الإنسانية كثيرًا: فهو يشرع للعنف بينما قوام الفلسفة هو العقل، وهو ينتصر للانتماء بينما تقوم الفلسفة على التكامل بين الإنتماء والالتزام، وهو يخرج من دائرة الإنسانية المتضامنة عندما يرفض فضاء المشترك الإنساني، وتكون النتيجة هي نهاية الفلسفة وبداية: العنف والانتماء والخصوصية الضيّقة.

لقد أردنا في هذا المقال، ليس أن نفحص ما قاله هؤلاء النماذج: هابرماس وموارن وجيجيك، فقد كُتب حولها الكثير، لكن أردتُ استنباط مظاهر الإخلال بالفكر الفلسفي ومظاهر تجذّر العقلانية التواصلية والعقل المركّب في الهوية اليهودية، التي ليست مشكلة كونها هوية أو انتماء، فما وجدت الهويات في العالم إلا لأجل التواصل والتعارف، وإنما لكونها انكشفت بوصفها هوية تأسيسية لنسق من الأفكار طالما تُقدّم في صورة عقلانية ومحايدة وموضوعية، وبالتالي، فإنّ عالم ما بعد غزّة فلسفيًا هو عالم الوعي من الدرجة الثانية، فإذا كان الوعي الفلسفي في الدرجة الأولى هو وعي القراءة الباردة للفكر الغربي في العلوم والفلسفات، فإنه في مرحلة الدرجة الثانية وعيًا يقظًا ووعيًا متذكّرًا من جديد لروحه الثقافية التي هي أساس فلسفته وعنوان فعله في العالم.



(1) هي عبارة للألماني يورغن هابرماس

(2) مفردات اشتهر بها إدغار موران

(3) www.youtube.com/watch?v=j8pwQ4uUxoQ

(4) https://www.bbc.com/arabic/articles/c72r8vrvl85o 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن