بوادر اليأس من قدرة الجيش الإسرائيلي على إطلاق الأسرى والمحتجزين يبدو واضحا، فالوقت يمر دون أي نجاح، ولا تبدو الفصائل الفلسطينية قد وهنت، فما زالت توقع الخسائر في الجنود والضباط، وأنهكت لواء النخبة «جولاني» ودمرت مئات المركبات، وتنصب الكمائن وتطلق الصواريخ على تل أبيب والقدس وغلاف غزة، ويبلغ الحجم المالي للخسائر العسكرية الإسرائيلية نحو 250 مليون دولار يوميا، وتضرر «الشيكل» رغم دعمه من جانب البنك المركزي بنحو 30 مليار دولار، لوقف انخفاض قيمته، والسياحة تكاد تصل إلى الصفر، وقطاع التكنولوجيا القائد للاقتصاد الإسرائيلي يواجه أضخم أزمة، وهناك هروب للاستثمارات في هذا القطاع الذي تلقى ضربة مزدوجة، سواء من تجنيد الكثير من العاملين فيه، أو الصفعة العسكرية في السابع من أكتوبر، التي أسقطت أسطورة التفوق التكنولوجي الهائل الذي يمكن من رصد وتوقع كل شيء، وإذا بالسقوط المخابراتي التكنولوجي يؤثر على شركات التكنولوجيا الفائقة وصادرات السلاح الإسرائيلية.
وكذلك جاء تهجير سكان غلاف غزة ومستوطنات الشمال القريبة من الحدود اللبنانية ليؤدي إلى تدهور كبير في الإنتاج الزراعي، وإذا كانت الولايات المتحدة خصصت مساعدات مالية تعدت 13 مليار دولار، ومساعدات عسكرية كبيرة لتعويض الخسائر، فلن تنقذ هذه المساعدات إسرائيل كثيرا، فهناك فقدان للثقة في قدرات إسرائيل وأمنها، من الصعب مداواته بجرعات من المساعدات، وإذا استمرت الحرب فستظهر آثار هذا التراجع في معدلات تضخم عالية وتراجع في الإنتاج المحلي وهروب للاستثمارات.
ورغم أهمية الجانب الاقتصادي فإنه ليس الجانب المؤثر الرئيسي على صنع القرار في إسرائيل، فهناك ما هو أهم، وفي مقدمتهم الأسرى الإسرائيليون الذين فشلت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في تحديد أماكنهم، رغم المساعدات القوية من جانب بريطانيا والولايات المتحدة، وجاء قتل إسرائيل لثلاثة من الأسرى ليجسد هذا الفشل، وتتجدد المظاهرات ضد حكومة نتنياهو رغم استمرار الحرب، ومطالبته بخطوات عملية وليس مجرد وعود باستعادة الأسرى أحياء.
ومع تراكم الفشل طوال شهرين ونصف الشهر من المعارك، ورغم استخدام إسرائيل كل أنواع الأسلحة وأفظع وسائل القتل والترويع للسكان المدنيين، فإن ما تحقق لا يستحق الذكر في مواجهة قوات غير نظامية تستخدم أسلحة معظمها مصنعة محليا، من الأنواع الخفيفة والمتوسطة في قطاع لا يتجاوز عدد سكانه مليونين و300 ألف، ومحاصر برا وبحرا وجوا، ولا يدخله سوى القليل جدا من السلع والمنتجات المراقبة بدقة، والممنوع منها أي مواد يمكن استخدامها في إنتاج أسلحة أو إنشاء أنفاق، بما فيها معدات رفع الأنقاض، وهو ما يفاقم الشعور الإسرائيلي بالهزيمة.
ولهذا بدأت التحركات الدبلوماسية تستعيد نشاطها بقوة، مع ظهور مؤشرات وتقارير أن إسرائيل لن تحقق أهدافها المعلنة أو الخفية، سواء اجتثاث حركة حماس، أو الإفراج عن الأسرى بالقوة، أو تدمير شبكة الأنفاق، أو تنفيذ مخطط التهجير، فكل هذه الأهداف أصبحت بعيدة المنال، وقدمت إسرائيل تراجعا يتعلق بصفقة الأسرى، ورفضت حركة حماس أن يجري تنفيذ أي تبادل للأسرى تحت النيران، واشترطت إيقافا كاملا للعدوان، وهو بمثابة إعلان هزيمة لإسرائيل، لهذا يجري وضع صيغة بديلة لإيقاف الحرب، سواء بالإعلان عن هدنة طويلة أو متجددة، أو تغيير اسم الحرب ونوع وحدة القتال، وقصرها على عمليات محدودة لأهداف محددة، وما زالت المفاوضات تجري للوصول إلى اتفاق لا تظهر فيه إسرائيل مهزومة، ولا تبدو فيه حركة حماس منتصرة، لكن المؤكد أنها لن تنتهي وفق ما كانت تتمناه أو تتوقعه إسرائيل، وهذا ما قاله كبار الضباط الميدانيين في قوات النخبة الإسرائيلية، بأنهم شاهدوا ما لم يتوقعوه، وأن الفصائل الفلسطينية المسلحة تخوض حربا ضارية لم يكونوا يتخيلون أنهم قادرون على خوضها.
وإلى جانب هذه العوامل التي فتحت الطريق نحو نهاية للحرب، فهناك الموقف الأمريكي الذي يرى أن الحرب أضرت بسمعة وصورة الولايات المتحدة في أنحاء العالم، وأن استمرارها سيجر عليها متاعب أشد، خاصة في حالة تمدد الحرب إلى ساحات أخرى، وإذا اشتد وطيس هذه الساحات فإن الولايات المتحدة ستنزلق إلى حرب يصعب تجنبها، والأخطر أنه يصعب أن تحقق فيها إنجازا، وستتضرر مصالحها في توقيت صعب، سواء داخليا في عام الانتخابات، أو على صعيد أولوياتها في كبح تقدم الصين وروسيا، لهذا ينبغي عدم المضي قدما في الحرب التي تفجرت في غزة، والخروج بأقل الخسائر.
("الأهرام") المصرية