وقبل الشروع في تحليل الردود التي وردت على هذا الاستبيان والتعليق على الفكرة برمّتها، تجدر الإشارة إلى أنّ كلًا من منتدى التكامل الإقليمي والجبهة العربية التقدمية هما تنظيمان شعبيان مقرّهما لبنان، وبينما أنّ الأول عبارة عن تجمّع لعدد من المثقفين، فإنّ الثاني هو عبارة عن تجمّع قوامه الأساسي مجموعة من الأحزاب السياسية.
ومن قبل طرح هذا الاستبيان للتفاعل الشعبي معه، كان منتدى التكامل الإقليمي قد تبنّى فكرة تحقيق ما أسماه بالتكامل الإقليمي المشرقي المتوسطي بين أربع حضارات يمثّلها العرب والأتراك والإيرانيون والأكراد، وهي فكرة ناقشتُ فيها مدير المنتدى الأستاذ سعد محيو وانتقدتها له لعددٍ من الأسباب الأساسية.
النظام الدولي قائم على الدول القومية، والأطراف القادرة على تحقيق التكامل هي الدول وليست الشعوب
السبب الأول؛ أنها تقسّم المنطقة إلى مجموعة من الهويّات الإثنية وتنتقي من بينها أربعًا لتكون هي المعنية بالتكامل فيما هناك العشرات من الهويّات الأخرى الكبيرة على رأسها الأمازيغ الذين يمتدّون من المغرب العربي إلى مصر ولا يقلّون عن الأكراد في النسبة العددية ولا في العراقة التاريخية أو في النضال السياسي- فكيف يتم تجاهلها؟، وهذا يعني أنّ التقسيم المذكور لا ينذر فقط بتعميق النزعات الانفصالية في منطقة لا تنقصها أسباب التفكيك، لكن هذا التقسيم يقترن أيضًا بتهميش الهويّات الأخرى غير المخاطَبَة بمشروع التكامل على نحو يخلق بؤرًا للتوتَر وعدم الاستقرار السياسي في الدول التي تشكّل فيها الجماعات المهمّشة جزءًا من تركيبتها السكانية.
والسبب الثاني؛ لانتقاد فكرة التكامل المشرقي المتوسطي بين العرب والأتراك والأكراد والإيرانيين، هو أنّ هذه الفكرة تقفز فوق مجموعة من المعطيات الواقعية من بينها تعذّر تعامل الأتراك والإيرانيين مع الأكراد كقومية عابرة للحدود فضلًا عن الدخول معها في علاقة تكاملية على ضوء التعقيدات الشديدة للقضية الكردية في كلٍ من تركيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أما السبب الثالث؛ فهو أنّ مصطلح الإيرانيين مصطلح غامض بعكس مصطلحات العرب والأتراك والأكراد، لأنه إن كان المقصود به كل مواطني إيران فهذا يتضمّن بالضرورة البلوش والآذريين والعرب والآشوريين والأكراد.. إلخ، أما إن كان المقصود به الفرس الذين يمثلون أزيد قليلًا من نصف عدد سكان إيران فإنّ هذا يعني أن يذهب الفرس للتكامل مع العرب والأتراك والأكراد في الوقت الذي توجد فيه مشاكل عميقة في علاقة هؤلاء الفرس بباقي المكوّنات الإيرانية.
وأخيرًا فإنّ النظام الدولي، شئنا أم أبينا، هو نظام قائم على الدول القومية، وإذا كنّا نتحدث عن عملية تكاملية فإنّ الأطراف القادرة على تحقيق هذا التكامل هي الدول وليست الشعوب، وإلا فكيف سيتكامل العرب مع الأكراد ومع الإيرانيين ومع الأتراك وتجري بينهم صفقات تجارية ومعاملات اقتصادية وتفاهمات سياسية؟.
ننتقل الآن إلى ردود الأفعال التي وردَت على الاستبيان الخاص باقتراح النظام المشرقي المتوسطي، ومن تحليل تلك الردود يتّضح أنها انطوت في معظمها على التحفّظ على فكرة النظام الشرق أوسطي البديل، لأنّ هذا النظام الذي يُقصَد به أن يكون مضادًا للنظام المقترح من جانب الولايات المتحدة يتجاهل العلاقة الوثيقة بين تركيا وإسرائيل فضلًا عن التطوّر الحثيث في عملية تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية والذي لم يوقفه إلا "طوفان الأقصى" ولو في حدود الأمد المنظور.
طرح فكرة نظام شرق أوسطي جديد في هذه المرحلة يمثّل شكلًا من أشكال استهداف العروبة
ثم أنّ الفكرة تصطدم بوجود العديد من الدول العربية الهشّة التي تعاني في الحد الأدنى من الجمود السياسي كما هو الحال مع سوريا وليبيا واليمن، أو من الاحتراب الداخلي العنيف كما هو الحال مع السودان، ومن المفهوم أنّ أيّ عملية تكاملية لا يتوّفر لها أساس داخلي قوي يكون مصيرها هو الفشل.
وأضاف البعض أنّ إسرائيل ستكون عامل تخريب لا شك فيه لهذا النظام المقترح طالما أنه مؤسّس ضدها وفي مواجهتها. وفيما يخصّني فإنني أعتبر أنّ طرح فكرة نظام شرق أوسطي جديد في هذه المرحلة حتى ولو كان نظامًا تحرّريًا يهدف إلى الوقوف في وجه الغطرسة الأمريكية والعدوانية الإسرائيلية، إنما يمثّل شكلًا آخر من أشكال استهداف العروبة من خلال تعويمها في إطار إقليمي أوسع وأشدّ تنافرًا بالمناسبة.
وإذا كنّا نسلّم بأنّ النظام العربي فشل فشلًا ذريعًا في تعامله مع الحرب على غزّة إلى حد يدفع إلى التشكيك في أنه ما زال موجودًا أصلًا، فإنّ هذا لا يعني بحال الهروب إلى أطر إقليمية أوسع. هذا مع العلم بأنّ كاتبة هذا المقال تؤمن تمامًا بضرورة إقامة علاقات سوّية مع دول الجوار الجغرافي وحل المشاكل المعلّقة معها عن طريق الوسائل السلمية لا عن طريق الصراع سواء المباشر أو بالوكالة، لكن هذا كلّه شيء ومسألة الدخول مع دول الجوار في نظام إقليمي مشرقي متوسطي شيء آخر مختلف تمامًا.
(خاص "عروبة 22")