وجهات نظر

اتجاهات الرأي العام العالمي بين أميركا والصين: قراءة بانورامية

تغيّرت النظرة للقوتين العظمتين في العالم، الولايات المتحدة الأميركية والصين، في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت الولايات المتحدة تتمتّع بصوة أكثر إيجابية خاصّة لدى المواطنين في البلدان ذات الدخل المرتفع، بينما تراجعت صورة الصين الإيجابية لدى مواطني هذه البلدان الغنية. ولكن القصّة أكثر تعقيدًا تهمّ جوانب أخرى تتمتّع فيها كل من الصين والولايات المتحدة بصور إيجابية وسلبية حسب المجالات وحسب المستوى الاقتصادي للبلدان وعوامل أخرى.

اتجاهات الرأي العام العالمي بين أميركا والصين: قراءة بانورامية

هذا ما أظهره تقرير صدر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 عن المؤسّسة غير الربحية المستقلة PEW المتخصّصة في المسوح الدولية للرأي العام الدولي، ويوجد مقرّها بواشنطن، وقد غطّى التقرير نتائج مسح عيّنة كبيرة من المواطنين في 24 بلدًا في جميع القارات من البلدان الغنية (عيّنة من أوروبا الغربية والشرقية وأستراليا وكندا وسنغافورة وإسرائيل، كوريا الجنوبية واليابان) ومن البلدان المتوسطة الدخل (كينيا، جنوب أفريقيا ونيجريا، البرازيل والمكسيك والأرجنتين وإندونيسيا، والهند) حيث تمّ سؤال المواطنين، وعددهم (1000 فرد من كل بلد، عن جملة من المجالات الرئيسية التي تخصّ الدولتين العظمتين، في مجالات السياسة الخارجية والقيادة الاقتصادية الدولية والتفوق التكنولوجي، وكذلك في قضايا التعليم الجامعي والقوات المسلّحة والحريات والثقة في القادة والسينما.

في تقييم السياسة الخارجية للقوتين العظمتين الولايات المتحدة والصين من قبل مواطني 24 بلدًا، يعتقد أغلب مواطني البلدان الغنية والمتوسطة أنّ الولايات المتحدة تتدخّل أكثر من الصين في شؤون الدول الأخرى، كما يعتقد مواطنو البلدان المتوسطة الدخل، وخاصّة من جنوب أفريقيا ونيجيريا والأرجنتين والمكسيك، أنّ الصين تأخذ بعين الاعتبار مصالح بلدانهم في سياستها الخارجية أكثر مما تفعل الولايات المتحدة، بينما يرى الهنود أنّ الولايات المتحدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح الهند أكثر من الصين، ويعتقد أغلب الإسرائيليين (حوالى 80 بالمئة منهم) أنّ الولايات المتحدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح إسرائيل في قراراتها المتعلّقة بالدول الأخرى، وهذا أمر معلوم بالنسبة للقارئ العربي.

ما زال الناس ينظرون إلى أميركا بصفتها القيادة الاقتصادية الدولية الأبرز رغم تباطؤ النمو الأمريكي مقارنةً بالصيني

وعن مساهمة القوتين العظمتين في الأمن والسلم الدوليين، يرى مواطنو البلدان الغنية، وخاصّة اليابان وإسرائيل وكوريا الجنوبية وبولندا، أنّ الولايات المتحدة تساهم بشكل أكثر في السلم والأمن الدوليين، لكن في البلدان المتوسطة الدخل يرون أنّ كلا البلدين يساهمان بالقدر نفسه، بينما يرى الهنغاريون أنّ الصين تسهم أكثر نوعًا ما (3 نقطة اضافية لصالح الصين) مما قد يساعدنا في قراءة بعض أسباب صعود الاتجاهات الشعبوية في هذا البلد.

ما زال الناس في العديد من البلدان التي شملها المسح تنظر إلى الولايات المتحدة بصفتها القيادة الاقتصادية الدولية الأبرز وذلك رغم تباطؤ النمو الأمريكي مقارنةً بالصيني، ففي الهند مثلًا، تصل النسبة إلى 51 بالمئة من الاعتقاد في القيادة الاقتصادية الأمريكية للعالم مقابل 14 بالمئة فقط تجاه الصين.

فيما يتعلّق بمستوى معيشة السكان، يُبيّن مؤشّر تقرير التنمية البشرية الدولي أنّ مستوى التنمية البشرية، من صحة وتعليم وغيرهما، في الولايات المتحدة هو أفضل من الصين، لكن الناس لديهم رأي مختلف حيث يعتقد الألمان والهولنديون أنّ المستوى المعيشي في الولايات المتحدة هو أدنى من المستوى المتوسط، بل يرى 12 بالمئة فقط منهم أنّ مستوى المعيشة الأمريكي هو الأفضل في حين يرى فقط 8 بالمئة من الألمان والهولنديين أنّ الصين تتمتع بمستوى معيشي هو الأفضل، بينما 58 بالمئة من الهنود يعتقدون أنّ الأمريكي يعيش المعيشة الأفضل مقابل 32 بالمئة فقط من الهنود لديهم تصوّر عن الصين مفاده أنّه لديها مستوى معيشي أفضل.

تسيطر الولايات المتحدة والصين على سوق التكنولوجيا الرقمية، وبينما تتفوق الشركات الأمريكية من قبيل "غوغل" و"آبل" على سوق الهواتف الذكية في العالم، فإنّ الصين تتفوّق عليها في شبكة 5G الدولية، ولهذا تتمتع كل من الولايات المتحدة والصين في نظر سكان 24 بلدًا في العالم بالصورة الإيجابية نفسها عن القيادة التكنولوجية، لكن بعض البلدان مثل الهند يرى الرأي العام فيها أنّ الولايات المتحدة هي الأفضل تكنولوجيًا مقارنةً بالصين حيث يعمل الكثير من الهنود في قطاع التكنولوجيا الأمريكية وتتساوى النظرة لدى مواطني البلدان الغنية والمتوسطة.

وعن أفضل الجامعات، يعتقد 70 بالمئة من الهنود أنّ الجامعات الأمريكية تبقى الأفضل مقابل 30 بالمئة يرون أنّ الجامعات الصينية تبقى الأفضل، والمفارقة أنّ البريطانيين هم الأقل نسبة في الاعتقاد أنّ الجامعات الامريكية هي الأفضل فقط بنسبة تناهز 51 بالمئة.

الولايات المتحدة والصين القوتان الأعظم سلاحًا في العالم لكن عدد القوات الصينية هو ضعف القوات الامريكية، ومع ذلك فأغلب المواطنين في البلدان التي شملها المسح في مختلف القارات يرون أنّ القوات الأمريكية تبقى الأفضل، ولكن المفارقة هنا أيضًا هي أنّ الألمان والبريطانيين حلفاء "الناتو"، قالوا إنّ القوات الأمريكية والصينية تقريبًا متساويتان في التفوق وليس لأحدها تفوق على الآخر، بينما الهنود أكثر اعتقادًا في أنّ القوات الامريكية هي الأفضل.

حقّقت الصناعة السنيمائية الصينية لأول مرة تفوقًا على صناعة "هوليود" من حيث حجم سوق الأفلام

احترام الحرية الشخصية للمواطنين هو الموضوع الذي حصلت فيه الولايات المتحدة على تفوق كبير جدًا على الصين في نظر مواطني 24 بلدًا من جميع القارات، والتقارير الدولية عن الديمقراطية تفيد بأنّ الولايات المتحدة أكثر ديمقراطية من الصين، بل تحتل كوريا الجنوبية وتايوان أعلى النسب في النظرة الإيجابية للولايات المتحدة كبلد ديمقراطي والأدنى تجاه الصين، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى التحديات القادمة من الجارة الصين في تايوان ومن كوريا الشمالية حليفتها.

في 2020، حقّقت الصناعة السنيمائية الصينية لأول مرة تفوقًا على الصناعة الأمريكية لمؤسّسة "هوليود" من حيث حجم سوق الأفلام، وبالرغم من ذلك، جاءت الأفلام الأمريكية في أعلى الأفلام مبيعًا ومشاهدةً في العالم في تلك السنة، وبسبب القوة الصاعدة للصناعة الهندية في مؤسّسة "بوليوود" يقول أقلّ من نصف الهنود (48 بالمئة منهم فقط) إنّ الصناعة الامريكية هي الأفضل في العالم مما يعكس تقديرًا إيجابيًا للصناعة الهندية لدى الهنود.

نحن بحاجة في العالم العربي إلى معرفة اتجاهات مواطنينا حتى تكون القرارات مبنيّة على معرفة موضوعية للواقع

لا توجد معطيات في التقرير نفسه عن العالم العربي، حيث لم يشمل هذا المسح مواطنين من الدول العربية، وهذا أمر يؤسف عليه لأنّه يحرم صنّاع القرار والخبراء في منطقتنا من معرفة اتجاهات الرأي العربي تجاه القضايا الدولية حتى نعرف أين نحن من العالم.

ما هو مؤكّد هنا، أنّ هناك مخاطر عند نشر نتائج سبر آراء غير مهنية وغير علمية على السياسات، حيث تعطي معلومات مضلّلة، لكن مؤسّسات مثل مركز "بيو" لديه سمعة دولية موثوق بها، ولن تكون هناك مخاطر أمنية نوعية من السماح لمؤسّسات مثل هذه أن تغطي أنشطتها المسحية منطقتنا العربية.

نحن بحاجة إلى معرفة اتجاهات مواطنينا تجاه مختلف القضايا المحلية والدولية حتى تكون القرارات الحكومية وغير الحكومية مبنيّة على معرفة موضوعية للواقع، وليس على انطباعات مشكّلة من متابعة لحظية لترندات شبكات التواصل الاجتماعي المضلّلة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن