ثمّة فيضان للغة الدينية المفرطة ويقينياتها "المقدّسة" على وسائل التواصل الاجتماعي، ويرتكز الخطاب الديني المسيّس بين أطرافه المتصارعة على توظيف رب الجلالة الله الواحد الأحد - في العقيدة الإسلامية -، ويهوه YHWH أو إلوهيم في اليهودية، والرب يسوع بالمسيحية في الخطابات المتنازعة حول الحرب!. تمددت في سياقاتها وبنياتها الخطابية مفردات غالبة من مثيل القصف والتدمير وأحزمة النيران والموت والإصابات والهدن الإنسانية، والوحشية والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي ومعاداة السامية والكراهية والحيوانات البشرية.. إلخ.
حالة من الحرب اللغوية الحاملة لمجازات عنيفة بين حدي العدوان ما فوق الوحشي المفرط، ولغته المساوقة الرامية لإشاعة رهاب الخوف والردع، واللا إنسانية، ولغة الجسارة والمقاومة والصمود، واستدعاء كل طرف السند الآلهي دعمًا له، وحثًا على التماسك السوسيو- نفسي إزاء شلالات الدم والموت المحلق على الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين الفلسطينيين العزّل أو بحثًا عن ثقة في الذات الجماعية الإسرائيلية لمواجهة الأزمة الوجودية لبعض من النخبة السياسية، ومعها قطاعات واسعة من المجتمع.
من بين ثنايا حرب الخطابات المتنازعة حول العدوان على الفلسطينيين، بقطع النظر عن حقائقها وأكاذيبها على الجدالات المختلفة، يمكن تنميطها على النحو التالي:
1- خطابات الحرب العسكرية التي ينتجها طرفا الصراع المباشران، وعادة ترتكز على اللغة العسكرية العنيفة والصارمة والمحمولة على النصر كحليف لكل طرف في الاشتباكات، في نهاية الحرب، والإشادة بشجاعة الجنود والمقاومين والأداء العسكري والقتالي المنضبط.
2- خطاب الإعلام العسكري المهاجم للطرف الآخر، ووصمه بالأوصاف السلبية، والاصطلاحات القانونية الدولية في الحرب القانونية الموازية، وانتهاك بعضهم لها، وأن سلوكه العسكري يتوافق معها، ويشكل دفاعًا شرعيًا عن النفس من مثيل وصف جيش الاحتلال عملية "السيوف الحديدية" بأنها دفاع شرعي، ومعه داعموه في الإدارات الأمريكية والغربية! وإغفال هذا الخطاب أنّ إسرائيل دولة وسلطة احتلال استيطاني، وعقاب جماعي تحاصر القطاع والسكان المدنيين منذ عام 2007 وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام فرضت عليه حصارًا شاملًا!، ونسيان أنّ الأراضي الفلسطينية محتلّة في الضفة والقطاع بعد حرب يونيو/حزيران 1967.
3- خطاب المقاومة الإسلامية يركّز على مشروعية سلوكها المقاوم في مواجهة العدوان الإسرائيلي المنتهك لقانوني الحرب والدولي الإنساني، والإشادة بإنجازاتها الميدانية من قتل الجنود والضباط وتحطيم المركبات العسكرية، والإشارة إلى عدم تحقيق الاحتلال لأهدافه في القطاع.
4- الخطاب العسكري المرئي الذي يتمثل في تصوير وتوثيق كل طرف لعملياته الميدانية ضد الطرف الآخر وإنجازاته. فخطاب المقاومة يميل إلى توثيق عملياته من المسافة صفر، ليُبيّن شجاعة المقاومين وملابسهم البسيطة، وبعضهم يسير حافيًا أو يرتدي "الشبشب" أثناء قصفهم المركبات العسكرية وحاملات الجنود، وخاصة قوات النخبة مثل "لواء جولاني" وإيقاع خسائر كبيرة بين ضباطه وجنوده.
الخطاب السياسي للقادة الإسرائيليين يركّز على خطاب المتطرفين الذي يدعو للإبادة الجماعية
5- الخطاب المرئي لقوات الاحتلال يركّز على الكثافة المفرطة للنيران من الطيران والمدفعية والدبابات والقنص للمدنيين، وهدم المباني وإبراز مظاهر السيطرة الميدانية والتوغل وتحقيق تقدّم في العمليات العسكرية. يرمي هذا الخطاب العسكري المرئي الوحشي إلى بث رسائل سياسية ونفسية لتجاوز الأزمة الوجودية وفجوة الثقة داخل إسرائيل، وإلى عديد الأطراف، وذلك على النحو التالي:
(أ) - رسالة إلى المجتمع الإسرائيلي مفادها أنّ الجيش في طريقه لتحقيق أهداف العملية العسكرية، وإلى المعارضة ومكونات اليمين الديني المتطرّف، وذلك للحفاظ على التماسك النسبي للائتلاف الحاكم.
(ب) - رسالة ردع إلى دول الدائرة البؤرية، ودول الطوق، بأنّ القوة العسكرية مفرطة ومدمّرة، وقدراتها الردعية هائلة، وذلك لاستعادة هيبة الدولة والنظام السياسي، والجيش الإسرائيلي.
(ج) - رسالة إلى دول اتفاقيات "إبراهام" والمطبّعين رسميًا، أو بطرق غير رسمية، بأنها الفاعل المركزي والأساس في أمن الأقليم إزاء "خطر إيران" وحلفائها من الفواعل السياسية ما دون الدولة – "حزب الله" اللبناني، والمليشيات الشيعية بالعراق، وجماعة الحوثي باليمن –، وأنّ تصفية "حماس" و"الجهاد الإسلامي" تحقق مصالح هذه الدول، ناهيك عن أنها جسر فاعل وداعم لهم مع أمريكا وأوروبا!.
(د) - رسالة إلى المدنيين في القطاع والضفة بأنّ مساندتهم للمقاومة، ستؤدي للدمار الشامل والموت والجوع والعطش وانهيار النظام الصحي وانتشار الأمراض والأوبئة المحلقة فوق البشر والمكان. ومحاولة لخلق فجوات بين المدنيين والمقاومة!.
6- الخطاب السياسي للقادة الإسرائيليين في مجلس الحرب المصغر، والمجلس الحكومي الموسع يركز على خطاب المتطرفين الذي يدعو للإبادة الجماعية، وخطاب نتنياهو ومجلس الحرب الذي يصرّ على المضيّ قدمًا - لأسباب انتخابية قادمة – على تحقيق أهداف العملية كاملة من الإفراج عن الرهائن، وتصفية "حماس" وقدراتها العسكرية وقتل كوادرها، وتدمير شبكة الأنفاق، وعدم الموافقة على وقف نهائي لإطلاق النار، والسيطرة على القطاع، وبعد المرحلة الانتقالية تحديد منطقة فراغ أمنية تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي.
7- الخطاب الحمساوي والجهادي يركز في بنيته على ما يلي:
أ- اللغة القانونية الدولية وإطارها المرجعي لإثبات وتسويغ شرعية مقاومة إسرائيل كسلطة احتلال، وحصارها الجماعي والتهجير القسري والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، والتجويع والتعطيش للمدنيين، وتداعي النظام الصحي.
ب- ضرورة وقف شامل لإطلاق النار قبل الإفراج عن الأسرى، وفق قاعدة "الكل مقابل الكل"، وانسحاب إسرائيل الشامل من القطاع، على أن يخضع مستقبل القطاع والضفة لإرادة الفلسطينيين، وإلى من يختارونه مستقبلًا في انتخابات حرّة، وذلك في مواجهة الأطروحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية وغيرها حول "اليوم التالي"، والسيناريوهات المختلفة المشوبة ببعض الغموض التي يتم تداولها علنًا أو في الكواليس السياسية.
اللغة الدينية ذات وظيفة تعبوية ترمي إلى مخاطبة القواعد الاجتماعية
إنّ نظرة على المواجهات العسكرية بين المقاومة الفلسطينية، وجيش الاحتلال المحاصِر للقطاع، تشير وبوضوح إلى تناصات الخطاب الديني والقانوني للمقاومة، حيث تسيطر اللغة الدينية ومحمولاتها الرمزية على منطوق ومرجعية الخطاب السياسي العسكري.
لا شك أنّ اللغة الدينية ذات وظيفة تعبوية ترمي إلى مخاطبة القواعد الاجتماعية في القطاع، والضفة الغربية. وتستثير وتحفّز ثقافة المقاومة العاديين من الأهالي، لأن الثقافة الدينية وأنماط التديّن الشعبي الوضعي هي السائدة من خلال الأدوار التي يلعبها المسجد والكنيسة، ومن ثم هي جزء رئيس من لغة الحياة اليومية.
تسيطر هذه اللغة المرتكزة على النص الديني المقدّس في ظل غياب الدعم العربي والإسلامي، وتهميش المسألة الفلسطينية على قائمة أعمال واهتمامات النخب السياسية الحاكمة في الإقليم العربي.
لا شك أنّ تهميش المسألة الفلسطينية، أدى إلى تغيّرات في الإدراك والوعي شبه الجمعي بأنّ السند الأساس هو الاعتصام بالنص الديني كأداة للتعاضد والتماسك الاجتماعي، والإيمان بالله سبحانه وتعالى.
النزعة الإيمانية المحمولة على القدرية باتت جزءًا من نظام التنشئة الاجتماعية – في الأسرة، والعائلة الممتدة، والمسجد والمدرسة والجامعة – وخاصة في ظل نظام اجتماعي غزّاوي يتأسّس على العائلة الممتدة كوحدة اجتماعية متماسكة، وينسب لها الشخص، من ثم بات البيت جزءًا عضويًا من مفهوم الوطن. وعليه كان الخطاب المقاوم ولا يزال يعتمد في منطوقه وبنيته اللغوية على الأسماء الدينية، وهو ما أطلق على كل المواجهات العسكرية في مواجهة العدوان، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، في ظل سياسة العقاب والحصار الجماعي. من هنا كانت أسماء المواجهات على النحو التالي:
(1) 2008/2009 معركة "الفرقان" في مواجهة "الرصاص المصبوب".
(2) 2012 "حجارة من سجيل" ضد "عامود السحاب".
(3) 2014 "العصف المأكول" في مواجهة "الجرف الصامد".
(4) 2019 عملية "صيحة الفجر" التي شكلت ردًا على اغتيال بهاء أبو العطا وزوجته قائد المنطقة الشمالية لـ"سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي".
(5) 2021 "سيف القدس" ضد "حارس الأسوار".
(6) 2022 "وحدة الساحات" ضد "الفجر الصادق".
(7) 2023 "طوفان الأقصى" - "السيوف الحديدية".
إنّ نظرة على هذه العناوين الرمزية الدينية والسياسية للمقاومة في مقابل أسماء "علمانية إسرائيلية"، تشير إلى أنّ منطوق خطاب كل مواجهة يرمي من منظور المقاومة إلى تحفيز المكوّن الديني في ثقافة سكان القطاع من المدنيين، وإثارة الوعي الديني شبه الجمعي للشعوب العربية والإسلامية!.
لن تستطيع أي حكومة إسرائيلية يمينية ودينية متطرّفة أن تصفّي ثقافة المقاومة وسندها الديني
من هنا يُشكَّل هذا الخطاب في بنيته اللغوية ومرجعيته على الرمز الديني ودلالاته من أجل التعبئة الداخلية، ولأنّ ثقافة المقاومة في مصدرها الرئيس الآلهي و"السنّوي" هي السند الماورائي المقدّس في مواجهة الموت المحلّق في زمن غزة!.
من ثم يبدو السند الديني بارزًا في خطاب الحياة اليومية كما يبدو في خطاب الفيديوهات الطلقة المرئي في أثناء وأعقاب القصف الإسرائيلي الغاشم والموت الجاثم في أفق القطاع وأهله، حيث تسيطر اللغة الدينية في أهاب فصيح يتناص مع اللغة العامية في خطاب المدنيين، والأطفال الصغار منهم!.
من هنا نحن أمام ثقافة مقاومة ذات مرجعية ومصدر ديني طاغٍ على لغة وردود أفعال الخطاب اليومي الغزّاوي، ومن ثم لن تستطيع أي حكومة إسرائيلية يمينية ودينية متطرّفة أن تصفّي ثقافة المقاومة وسندها الديني في أي من سيناريوهات "اليوم التالي".
(خاص "عروبة 22")