على سبيل المثال، يُسرّ كثيرٌ من المعلّقين العرب عندما يسمع أو يقرأ رأيًا إسرائيليًا منتقدًا للحكومة الإسرائيلية ومندّدا بالحرب على غزّة ومنبئًا (بحرب أهلية إسرائيلية) ذلك محط قبول وحبور من المعلق العربي، في أكثرهم، أما إذا سمع نقدًا موضوعيًا لما تقوم به قيادة "حماس"، فإنّ قائلة بالقطع لدى تلك الخوص (إنّ القائل عربيّ متصهين)! الفكرة هنا أنّ هؤلاء الأشحاء لا ينتبهون إلى التناقض الحاد في موقفهم، قبول رأي مخالف لما تقوم به الدولة الإسرائيلية والاحتفاء به، وقطع الطريق على أي رأي مخالف، بصرف النظر عن درجة اختلافه، تلك واحدة من معضلات (الأدلجة العربية).
أما الثانية، فإنها تذهب إلى أن تكون (كوميديا سوداء) وأعني بها تصريح المتحدث الرسمي باسم "الحرس الثوري الإيراني" حيث قال (عملية طوفان الأقصى أحد الردود على اغتيال قاسم سليماني) أحسّت "حماس" بالحرج، فقال متحدثها الرسمي (تنفي حركة "حماس" ما ورد على لسان المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني العميد رمضان شريف فيما يخص عملية طوفان الأقصى) وذلك يُذكّرنا بقول سابق للسيد حسن نصر الله (طوفان الأقصى تخطيط وتنفيذ فلسطيني، ليس لإيران أي علاقة به)، رغم الأصوات الحماسية التي نادت بكل وضوح أن تتقدّم قوة (المقاومة) للمساعدة في حرب غزّة!
كل الملفات التي تحوط بنا يجمعها شريط واحد هو ذهاب العقل وحصور العاطفة
إذا أضفنا للنكتة السوداء السابقة ما يقوم به الحوثي في جنوب الجزيرة، فقد أقام حفلًا للزواج على سطح إحدى السفن المختَطَفة (تناول فيها المدعوون الكثير من صرر القات) تمهيدًا لتحرير فلسطين! في الوقت الذي يتحمّل فيه الضرر الأكبر من العبث بحرية الملاحة في البحر الأحمر عرب، سواء في السودان، أو في مصر، وقناة السويس، أما إسرائيل فلها موانئ على البحر الأبيض والضرر بالنسبة لها ضعيف إن لم يكن معدومًا. يُذكّرك فعل الحوثي بقصص سمعناها في طفولتنا بأنّ صاحب الدب أراد أن يطرد ذبابة على أنف الدب فرماها يحجر ضخم أخذ حياة الدب معه!
أما الحرب المنسية في السودان، فهي أيديولوجية بمعنى آخر، تحصد آلاف البشر وتفقر بلادًا هي أصلًا فقيرة، وينازع العسكر على النفوذ وربما الثروة المتبقية، تلك أيضًا تلحق بسوابقها فكل طرف سوداني يرى أنه المحق وغيره هو الشيطان، في الوقت الذي يدفع فيه الشعب السوداني ثمنًا باهظًا لم يدفعه من قبل في (حروب القبائل والأيديولوجيا)!
كل تلك الملفات التي تحوط بنا يجمعها شريط واحد هو (ذهاب العقل وحصور العاطفة) والتي استنزفت حتى الآن الكثير من الطاقة والاقتصاد وحتى الأمن من دول في هذه المنطقة المنكوبة.
لا حركة مقاومة وطنية يمكن أن تُحقّق أهدافها وهي بـ"رأسَيـْن"
نذكر بأسى قول السيد حسن نصر الله (ربما الذي يحمل صدقًا في ساعة صفاء) عن حرب عام 2006 حيث قال ما معناه (لو كنتُ أعرف بأنّ كل هذا التخريب سوف يحصل لَما قمتُ بالحرب)، وهذه "حماس" لا يعرف أحدٌ إن كان دافع (طوافان الأقصى) فلسطينيًا بحتًا أم إيرانيًا بحتًا، وإن كان الأول، فإنّ استراتيجية البدء والتي بدت وكأنها (عبقرية) لم يرافقها (استراتيجية خروج) متعارف عليها في أي صراع، وهذا الشعب الفلسطيني في غزّة يُذبح من الوريد إلى الوريد، يحاصَر ويجوع ويُقتل بالقنابل الحارقة ويُمنع من الماء والدواء والغذاء، ويساعد المجتمع الدولي السياسي في مجلس الأمن استمرار الحرب، لأسباب لا تخفى عن أي متعامل بالسياسة.
من أولى الأدبيات المعروفة أن لا حركة مقاومة وطنية يمكن أن تُحقق حتى بعض أهدافها وهي بـ"رأسَيْـن"، وقد حاول العرب ثمان مرات متعاقبة جمْع رأسَـيّ "حماس" والسلطة، ومع توقيع الورق، يُنسف بعد أيام أو حتى ساعات، بسبب (تسلّط الأيديولوجيا) المحمّلة بالأوهام، والنزيف في الدم الذي نشاهد أمامنا في غزّة والضفّة، جزء منه هو (وجود الرأسين)!.
(خاص "عروبة 22")