النظام العالمي الحالي، والذي يمر برحلة مخاض عسيرة قد تفضي إلى تغيّر هذا النظام في الشكل وفي المضمون قبل نهاية هذا القرن، وقد يكون ذلك بداية من السنوات العشر المقبلة.
هذا النظام الذي تشكَّل عشية انتهاء صلاحية "عصبة الأمم"، كان دوما مدعاة للتغيير والإصلاح، ولعل من أوائل رؤساء الدول من طالبوا بتغييره وتعديله وإصلاحه، هو الرئيس الراحل هواري بومدين سنة 1974 في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أي قبل نحو نصف قرن.
منذ ذلك الوقت، كان النظام العالمي عبر هياكله ومؤسساته، رغم المساحيق التي حاول الأقوياء تجميل وجه الرأسمالية العالمية، بها وعلى رأسهم الولايات المتحدة باعتبارها أكبر رابح في الحرب العالمية الثانية بعد الدمار الذي ألحقته الحرب الكونية بأوروبا والاتحاد السوفيتي، وهيمنة الولايات المتحدة على المشهد بفعل الدعم الكبير لمؤسساتها الاقتصادية من خلال المشروع الضخم "مخطط مارشال" لإعادة إعمار أوروبا، والذي مكَّن الاقتصاد الأمريكي من النمو السريع والسيطرة على أوربا والعالم، فإن الولايات المتحدة كانت الرابح الأكبر ودائما، في كل معادلات الحروب التي تخوضها، وهذا من خلال الاستثمار في مجال السلاح وتطوير الشركات الدفاعية. لهذا، تحولت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية إلى قطب ممثل للرأسمالية العالمية، تلحق به دول أوروبا، والكتلتان تنافسان وتعاديان الكتلة الشرقية، لاسيما الاتحاد السوفيتي وباقي الدول الاشتراكية وحتى كتلة عدم الانحياز.
انفردت 3 دول من التكتل السياسي والاقتصادي الرأسمالي: بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بثلاثة مقاعد في مجلس الأمن الدولي الذي هو أعلى مؤسسة عالمية، واستحوذت على حقِّ "الفيتو" مقابل دولتين فقط في المعسكر الاشتراكي هما الاتحاد السوفييتي والصين: الأسس التي قام عليها النظام العالمي هي القوة، القوة العسكرية أساسا، وهي القوة النووية.
غير أنه بعد ذلك ورغم منع المؤسسات الدولية التي أنشأها النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية، والذي كان يمثّل نظام القوي الغالب، من انتشار التسلح النووي وإبقائه ضمن "الأسرة" أو "النادي النووي" لضمان الردع والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، إلا أن عددا من الدول حققت بعد ذلك اختراقا بطريقة أو بأخرى، سرية بطبيعة الحال، وصارت دولا نووية، ومنها الهند وباكستان وكوريا الشمالية والكيان الصهيوني، الذي لا يزال يتبع سياسة “الغموض النووي” التي تعني أنها "تمتلكه ولكنها لا تعلن عنه"، ولا تقبل الخضوع للتفتيش، لأنها لم توقّع على معاهدة الحد من الانتشار النووي.
إذا كان امتلاك السلاح النووي هو المقياس اليوم لقوة الردع، فإن الاقتصاد والدولار لا يقل قوة عن دواعي الهيمنة، بدليل أن روسيا رغم أنها تملك على الأقل ما يعادل ما تملكه الولايات المتحدة من رؤوس نووية، إلا أنها اقتصاديا لم تصل بعد إلى تلك القوة التي تطمح لها، ولا الصين، بقوتها التي تفوق قوة روسيا وتنافس بقوة الولايات المتحدة، رغم قلة حجم السلاح النووي التي تملكه حاليا. لهذا، بات ضروريا تشكّل نظام عالمي جديد، اليوم قبل أي وقت مضى مكوّن من الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى ودول الجنوب في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند. هذا ما يسعى إليه تكتل “بريكس”، رغم عدم انسجام أعضائه المحتملين من حيث التوجّه السياسي والإيديولوجي، بل وتعارضها أحيانا، لكن المصلحة الاقتصادية قد تتفوق وتتغلب في نهاية المطاف على الخلافات السياسية والتوجهات الإيديولوجية.
وعليه، فنحن مقبلون على تغيّر كبير على مستوى بنية النظام العالمي وهياكله، وأيضا وظائفه ومؤسساته المشلولة حاليا بفعل الصراع بين “الفيلة” في مجلس الأمن منذ حرب أوكرانيا.
("الشروق") الجزائرية