بصمات

الفلسـفة واجتـمـاعُـنا السّـياسـيّ

إذا كـان الـفـكـر الـفـلسـفـيّ الإنسـانـيّ قـد شهـد، على امتـداد تـاريـخـه، على مـركـزيّـة مسألـة السّـياسـة والسّـياسـيِّ فيـه؛ وإذا كـان أَظْـهَـرَنـا على الكـثيـر ممّا أنتـجـهُ مـن معـارفَ عنها ومـن رؤَى حـولـها، منـذ المديـنـة الإغـريـقـيّـة حتّـى الـدّولـة الوطـنـيّـة الحديـثـة، فـكيـف يمكن تميـيـزُ مـوضـوع السّـياسـة، في الحـالة العربيّـة وفـي الأوضـاع العـربيّـة، عمّـا كانـه ذلك المـوضوع في فـلسـفـاتٍ سياسيّـة سابقـة (يـونانـيّـة، إسلاميّـة، غربيّـة حديـثـة ثـمّ معاصـرة)؛ هـل هو عيـنُـه الموضوعُ فيها أم يـنْـماز عـمّـا قبـلـه. وإذا كـان الأمـر كذلك، فـفي ماذا يتـمـايـز ويختـلف؟.

الفلسـفة واجتـمـاعُـنا السّـياسـيّ

مـن الواضـح أنّ السّـؤال يُـضْـمِـر قـدْرًا مـن الحـذر المـنـهـجيّ تجـاه عمـومـيّـاتٍ ربّـما كـانت مُـبْـتَـدَهـةً من قـبيـل الاعـتـقـاد أنّ الجـامـع بين الفـلسـفات السّـياسـيّـة - على اختـلافـها - هـو مـوضوعها العامّ: السّـياسـة، وأنّ هـذه تـكـتسب صُـورًا شتّـى ومختـلـفـة فـي كـلّ مكـان وزمـان، الأمـر الذي يُـرتِّـب علـيـنا - بالتّـالـي - التّـسليـم بأنّ مـوضوع السّـياسـة واحـدٌ وإنْ تبـايـنتِ الكـيـفـيّـات.

طبيعة السّياسة لا تتحدّد ذاتيًّا وإنّـما يُحدِّدُها واقعُها الفعليّ في المجال العام

أمّـا مَـأتى هـذا الحـذر فـمِـن عـموميّـة مـفـهـوم السّـياسـة ذاتـه؛ العـموميّـة التي لا تسمـح بتعـييـن المـوضـوع الذي سـيـتـناولُـه البحـث على وجـه الـدّقّـة. نعـم السّـياسـةُ معـطًـى اجـتـماعـيٌّ واحـد في المجـتـمعـات الإنسـانيّـة كـافّـة (= المجتمـعـات السّـياسيّـة)، مـن حيث هـي ديـنـاميّـةٌ نـزاعـيّـة أو تَـدافُـعـيّـة أو تـنـافسـيّـة، لكنّـها تخـتـلـف مـن مجـتـمـع لآخـر على صعيـد الـطّـبـيـعـة، والقـوى، والبـنـى. وهـذا الاخـتـلاف هـو ما يجـعـل المـوضوعَ نـفـسَـه مـتـغـيِّـرًا بـتـغـيُّـر الحـالات الـدّراسيّـة وشـروطِـها الاجتـماعيّـة والتّـاريـخـيّـة، وهـو - بالتّـالي- مـا يمنـح المشـروعيّـةَ لأيّ سـؤالٍ عـن طـبيـعة مـوضوع السّـياسـة فـي أيّ تـنـاوُلٍ فـلسـفـيٍّ لـه في الحـالـة العـربيّـة.

قـلـنا إنّ السّـياسـة تـخـتـلف، فـي تبـدّيـاتـها الواقـعـيّـة في المجتـمعـات، مـن حيث الطّـبيـعة والقـوى والبـنيـات. والحـقُّ إنّـه ليس بيـن هـذه فـواصـلٌ أو عـوازل، بـل هـي تـقـدِّم نفسـها متـرابطـةً على الدّوام على نحـوٍ يـقـتـرن فيـه الوحـدُ منها بالآخَـر. بيـانُ ذلك أنّ طـبيـعة السّـياسـة، أو مـاهـيـتَـها كـفاعلـيّـةٍ اجـتماعـيّـة، لا تـتحـدّد ذاتـيًّا، أي مـن السّـياسـة من حيث هـي مفـهـوم، وإنّـما يُـحـدِّدُها واقـعُـها الـفعـلـيّ في المجـال العامّ. ونـافـلٌ هـو القـولُ إنّـها ليست فعـلًا اجـتـمـاعـيًّا أو فـاعليّـةً، إلاّ لأنّ وراءَهـا فـاعـل/فـاعلـون يَـخْـلعـون عليـها تلك الصّـفـة؛ إذِ المـعلـوم، في ميـزان العـقـلِ والمنـطـق، أنّـه لا سيـاسـة يمـكـن أمـرُهـا مـن دون سـياسـيّـيـن (أو فـاعـليـن سياسـيّـيـن كما نسـمّيـهم اليـوم). يُـصطـلَح على هـؤلاء الـفاعليـن باصطـلاحـات ومـفاهيـم عـدّة: قـوى سيـاسيّـة، طبـقـات اجتـماعـيّـة، جمـاهيـر، مـواطنـون... إلخ.

قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وجماعات دينيّة تنتحل لنفسها دورًا ليس دورَها فتَفْسُد معه السّياسة ويَنْهدمُ بنيانُها

الجـامـع بين هـذه الـتّـسمـيات أنّ أصـحـابـها يمـارسـون السّـياسـة بـما هـي نشـاطٌ يـخـتـلـف عـن أنـشطـة اجتـماعيّـة أخـرى مثـل العـمـل (الزّراعـة، الصّـناعـة، التّـجـارة...)، أو الـدّفـاع (الحرب) وما شـاكـل. وغـنـيٌّ عـن البـيـان أنّ هـؤلاء لا يمـكـنهم أن يـمارسـوا السّـياسـة إلاّ في ميـدان خـاصٍّ بـها هـو المـيـدان السّـياسـيّ أو المجـال العـامّ؛ أي داخـل بنيـةٍ للسّـياسـة يشمـلها مفـهـوم الـدّولـة، فـتـكُـون منها السّـلطـةُ وأجـهـزتُـها التي تـقـع عليها المنافسـةُ بيـن القـوى، كمـا تـكُـونُ منـها الأحـزاب والمـنظّمـات السّـياسيّـة التي تـمثِّـل قـوى العـمـل السّـياسـيّ، ومصـالـحَ فـئـاتٍ بـعيـنـها مـن المجـتـمـع، والتي تعـبّـر عـن رؤيـةٍ بـرنـامجيّـة إلى المطالـب الاجـتـماعـيّـة والاقـتـصاديّـة هـي أهـداف سـياسـيّـة في التّـحـليـل الأخيـر.

ولكـن، مـاذا لـو أنّ السّـياسـةَ في مجـتـمعٍ مّـا لـم تـسـتَـوْفِ لـنـفـسها الشّـروط هـذه، ولا هـي ارتـقـت إلى حيـث تـكـون على هـذه الشّـاكـلة: أيْ سـياسـةً؟ ماذا لـو كـانتِ السّـياسـةُ فـعـلاً لا يـقـوم بـه المـواطـنـون ولا الأحـزابُ السّـياسيّــة المـدنـيّـة، بـل تـقـوم على أمـرها العصـبـيّـاتُ الأهـلـيّـة، مـن قـبائـلَ وعشـائـرَ وطـوائـفَ ومـذاهـبَ، والجـمـاعـاتُ الـدّيـنـيّـة... تـنـتـحل فيها لنـفسـها دورًا ليس دورَهـا فـتَـفْـسُـد معه السّـياسـةُ ويَـنْـهـدمُ بـنـيانُـها؟ ماذا لـو كـانت الحكـومـات والبـرلـمـانـات والبـلديّـات، وحتّـى الجيـوش أحـيانـًا، حصـصًا تَـحْـتَـصُّـها لنفسـها كـلُّ فئـةٍ أهـليّـة؟ أليس ذلك، فـعـلًا، واقـعُ الحـال في قسـمٍ مـن البـلاد العربيّـة؟ فأيّ عـبءٍ، إذن، سيـقـع على الـفلسـفة السّـياسيّـة ونـظامـها المـفـهـوميّ وهـي تـشـتـبـك، معـرفـيًّا، مـع هـذا النّـوع من الاجتـمـاع السّـياسـيّ المُـنافـي للسّـياسـة... والنّـافـي لها؟!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن