كثيرًا ما أدت الأنفاق لإحداث تأثير حاسم في الحروب عبر التاريخ، ولكن يبدو أنها قد وصلت لذروة تأثيرها في غزة. ويُرجّح أن الأنفاق بدأت في الأصل كسلاح هجومي، حيث كانت تستخدم في الغالب كوسيلة لاقتحام المواقع المحصنة.
والمفارقة أنّ الأنفاق ظهرت على الأرجح كسلاح معروف لأول مرة في منطقة الشرق الأوسط، كما تشير منحوتات آشورية قبل 4 آلاف عام، وغالبًا ما استخدم الرومان عمليات حفر الأنفاق في غزواتهم.
واكتسبت حروب الأنفاق زخمًا، في بداية القرن العشرين، عندما حاصر اليابانيون مدينة بورت آرثر في منشوريا بالشرق الأقصى التي كانت تحت سيطرة روسيا في عام 1904، وكانت تعد أحد أكثر واقوى المواقع المحصنة في العالم، ولذا حفر اليابانيون أنفاقًا، ستصبح أكبر نظام أنفاق عسكري حتى الآن، وفجروا فيها الألغام، مما أدى إلى اختراق الدفاعات المتبقية واستسلام المدافعين الروس.
وفي الحرب العالمية الأولى استمر استخدام الألغام داخل الأنفاق كآلية لاختراق خطوط خنادق العدو وكوسيلة لإنهاء الجمود الذي وصلت إليه الجبهة الغربية.
وفي الحرب العالمية الثانية، ازداد البعد الدفاعي للأنفاق، فلقد طوّرت المجموعات الأوكرانية في مواجهة الغزو الألماني منشآت دفاعية بنيت في أنفاق سراديب الموتى، على عمق وصل لـ20 مترًا، وفشل استخدام الألمان للغاز في هزيمة المدافعين.
وحتى عندما هُزم مقاتلو الأنفاق في الحرب العالمية الثانية، كانت التكلفة في الأرواح مروعة. ففي إيو جيما، تكبدت قوة أمريكية قوامها 110 آلاف جندي خسائر فادحة تعادل ربع عددها بين قتيل وجريح أمام اليابانيين، رغم أنه كان لديهم ميزة عددية بنسبة خمسة إلى واحد، واستمرت المعركة 36 يومًا.
فيتنام ذروة نجاح حرب الأنفاق
ولكن قصة نجاح حروب الأنفاق المدوية ظهرت في فيتنام، حيث تم بناء شبكات من الأنفاق من قبل الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام "الفيتكونغ" في جميع أنحاء فيتنام الجنوبية، وفرت مأوى ضد القوة الجوية الأمريكية الساحقة، وسهلت أسلوب الكر والفر في الحرب.
في البداية، كان الجيش الأمريكي غافلًا عن التهديد الكامن تحت الأرض، لدرجة أنه قام في عام 1966 ببناء قاعدة مساحتها 1500 أكر تضم 4500 جندي، مباشرة فوق أنفاق الفيتكونغ، الذين نظموا هجمات ليلية وهم يرتدون ملابس سوداء على القاعدة، قبل أن يختفوا في الظلام.
عندما تم اكتشاف شبكة أنفاق بالقرب من سايغون أدى قصف القاذفات الأمريكية إلى إزالة الغابات ولم تتضرّر الأنفاق
وسمحت الأنفاق للفيتكونغ بالتسلل بعمق إلى المنشآت العسكرية الأمريكية، لدرجة أنه في وقت ما، كان جميع حلاقي إحدى القواعد الأمريكية الثلاثة عشر أعضاء في الفيتكونغ.
عندما تم اكتشاف شبكة أنفاق Cu Chi بالقرب من سايغون في عام 1966، أدى قصف القاذفات الأمريكية إلى إزالة الغابات في المنطقة لكن لم تتضرر الأنفاق إلا بالكاد. وحتى عندما عثروا على المداخل، كان جنود المشاة الأمريكيون يواجهون داخل الأنفاق الحرارة الشديدة والحشرات والثعابين والأفخاخ.
على الرغم من أنّ الجيش الأمريكي سيؤسس في نهاية المطاف وحدات متخصصة تدعى "جرذان الأنفاق"، إلا أنّ هذه المشكلة لم يتم حلها أبدًا.
في أفغانستان، اكتشفت القوات الأمريكية، التي هاجمت مواقع تنظيم "القاعدة" وطاردت زعيمه أسامة بن لادن في عام 2002، مجمع أنفاق ضخمًا يربط بين تشكيلات كهوف تورا بورا الطبيعية. كان يضم مرافق المستشفيات، وغرف تخزين ضخمة، ومعدات اتصالات إلكترونية متطورة، ونظامًا لتنقية الهواء.
كانت الجهود المبذولة للاستيلاء على الأنفاق وتدميرها بمثابة نجاح تكتيكي، ولكنها كانت بمثابة فشل استراتيجي، حيث تمكنت حفنة من المقاتلين من صد هجوم التحالف إلى أن فرّ معظم مقاتلي "القاعدة" وجميع كبار قادة التنظيم.
جذور الأنفاق الفلسطينية
الأنفاق الفلسطينية يُعتقد أنها بدأت بشكل شعبي من خلال قيام سكان مدينة رفح المنقسمة بين فلسطينية محتلة ومصرية محرّرة باستخدام الأنفاق كوسيلة للتواصل بين الأسر التي قطع الاحتلال الإسرائيلي شملها بعد انسحاب إسرائيل من رفح المصرية ثم تحوّلت لوسيلة لتهريب السلع ثم الأسلحة قبل أن تحوّلها الفصائل الفلسطينية لسلاح هجومي ودفاعي، حيث استخدمت "حماس" نفقًا في أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2011 من داخل إسرائيل.
خلال الحرب على غزّة عام 2014 أثبتت الأنفاق أنها أكبر وأعمق وأطول مما كان متوقعًا
وبعد أن سيطرت "حماس" على السلطة في غزّة عام 2007، وفرضت إسرائيل حصارًا مشددًا على القطاع، توسّعت شبكة الأنفاق تحت غزّة وتحوّلت لأداة فعّالة للفصائل الفلسطينية.
وخلال الحرب الإسرائيلية على غزّة في عام 2014، أثبتت الأنفاق أنها أكبر بكثير، وأعمق، وأطول مما كان متوقعًا، كما أنّ بناءها المستقر جعلها منيعة أمام الضربات الجوية، وقاومت "حماس" أي محاولة للتوغل الإسرائيلي باستخدام كل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الفخاخ والكمائن.
ما نعرفه عن "مترو حماس"
وقد يكون المفارقة أنّ أفضل من قدّم الدعاية لشبكة أنفاق المقاومة الفلسطينية هو إسرائيل، إذ أطلق عليها القادة الإسرائيليون "مترو حماس" بسبب ضخامتها، إذ يقال إنها أطول من "مترو لندن"، والمعلومات عن شبكة أنفاق غزّة المتاحة قليلة، تشمل بعض الفيديوهات والمعلومات المسرّبة من إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
وهي تشبه إلى حد ما من حيث المفهوم أنفاق الفيتكونغ، لكن بجودة أفضل من فيتنام، فهي مزودة بجدران وأسقف خرسانية وكهرباء وشبكة اتصالات داخلية وغيرها من المرافق المطلوبة للإقامة الطويلة، حسبما قال في عام 2014، الدكتور إيدو هيشت من جامعة بار إيلان، الإسرائيلية.
وقال، إسماعيل هنية، القيادي بـ"حماس"، عام 2016 إنّ شبكة الأنفاق ضعف حجم شبكة الأنفاق التي بناها الفيتناميون.
العديد من الأنفاق متعرّجة، وتتخذ طريقًا غير مباشر بين نقطتين. لسببين، الأول، لمنع المخابرات الإسرائيلية من التوصل إلى استنتاجات حول اتجاهها الحقيقي عند اكتشافها. الثاني، تمنع الخطوط المتعرجة موجات الضغط الناجمة عن قنابل الطائرات الإسرائيلية من التسارع على طول نظام أنفاق إذا كان مستقيمًا، مما يقلل من تأثيرها الارتجاجي.
وبعض هذه الأنفاق كبيرة، بما يكفي لاستضافة تجمعات صغيرة من الناس، كما يعتقد أنها تحوي ورش تصنيع الأسلحة، وشبكة اتصالات أرضية.
وقالت الأسيرة الإسرائيلية يوشيفيد ليفشيتز التي احتُجزت خلال "طوفان الأقصى" ثم أُطلق سراحها ضمن صفقة التبادل، إنها سارت لمدة ساعتين إلى ثلاث ساعات عبر أنفاق رطبة حتى وصلت هي وأسرى آخرون إلى منطقة كبيرة تشبه القاعة.
مع انطلاق حرب غزّة الحالية، كان الإسرائيليون يتحدثون عن أنها بطول نحو 500 كلم وعمق يصل إلى 60 أو 70 مترًا (أي ما يعادل 20 طابقًا)، ولكن من الواضح مما يتسرّب من معلومات جديدة أنّ تقديرات الإسرائيليين غير دقيقة أو قديمة، والآن هناك تقارير وتسريبات بأنها أطول وتصل لـ700 كلم، بل قد تتعدى الألف كيلومتر وأنّ عمق بعضها يصل إلى 100 متر.
هل يمكن القضاء على المتحصّنين بالأنفاق؟
يُعتقد أنّ الأنفاق هي عماد استراتيجية القتال الخاصة بالفصائل الفلسطينية، إذ تحمي الأنفاق المقاتلين من الغارات والتوغلات الإسرائيلية ثم يخرج المقاتلون من الأنفاق في الوقت المناسب لهم، لكي يختبئوا في ركام المباني المدمّرة ويستهدفون قوات الاحتلال ثم يعودون إلى الأنفاق مرة أخرى.
وقال الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي يزاك بريك إنه بناء على شهادات الضباط والجنود المشاركين في القتال قد يستغرق تدمير شبكة أنفاق "حماس" سنوات، مع تكبد جيش الاحتلال لخسائر كبيرة، وطالب بجعل أهداف الحرب أكثر تواضعًا، خاصة أنه في القتال بالأنفاق سيتم تحييد تفوق إسرائيل النيراني والعددي.
ولم يتمكن أحد حتى الآن من العثور على الصيغة التقنية الفعالة للعثور على الأنفاق المخفية، حسب الخبراء العسكريين، ويبدو أنّ الجيش الإسرائيلي تخلى مؤقتًا عن فكرة إغراق الأنفاق بالمياه لأسباب عملية أو جرّاء تحفّظ أمريكي.
كثير من التقنيات التي تعمل لاكتشاف أو عرقلة الأنفاق، والتي جرّبتها إسرائيل مثل الخنادق وأجهزة الكشف الزلزالي والاستشعار الصوتي، تؤدي إلى تصعيب مهمة حفاري الأنفاق وليس وقفها، ويمكن هزيمتها بتعميق الأنفاق، وبالتالي تصبح أكثر تحصينًا أمام القصف.
الوسيلة الفعالة لتحديد مواقع الأنفاق حتى الآن هي "عن طريق الاستخبارات، وليس عن طريق التكنولوجيا"، حسب جون فيريكو من مديرية العلوم والتكنولوجيا بوزارة الأمن الداخلي الأمريكية، ولكن يبدو أنّ أحد أسباب تفوق الفصائل الفلسطينية هذه المرة أنها حيّدت شبكة العملاء التابعة لإسرائيل بشكل كبير.
القنبلة الأميركية الجديدة GBU-57 لا تخترق سوى عمق 30 مترًا وهذا غير فعّال ضد أنفاق "حماس"
في الوقت الحالي، تظل الأساليب القديمة المتمثّلة في تطهير الأنفاق بالمتفجرات والمسدسات هي المعيار السائد، مع مخاطر عالية لهذا النهج، بالنسبة للمهاجمين.
ويمتلك الجيش الإسرائيلي وحدة تُدعى ساموريم (ابن عرس) للتعامل مع الأنفاق، وتحدثت إسرائيل عن نيّتها استخدام الروبوتات وليس هناك مؤشرات على نجاح مؤثر لها.
وأعتى الأسلحة الأمريكية مثل القنبلة الجديدة GBU-57 التي يبلغ وزنها 30 ألف رطل، والتي ليست متاحة للجيش الإسرائيلي حتى الآن، وهي أكبر بنحو ستة أضعاف من القنبلة GBU-28 ( التي أرسلت منها أمريكا الآلاف لإسرائيل)، لا تخترق سوى عمق 30 مترًا. وهذا غير فعّال ضد أنفاق "حماس" العميقة التي يُقال إنها تصل إلى عمق 100 متر تحت الأرض، حسب فرانسيس بايك وهو مؤرخ ومؤلف متخصص في حروب آسيا الحديثة.
ويقول فرانسيس بايك، يبدو من المرجح إلى حد كبير أن تكون "حماس"، التي أعدّت بدقة شديدة لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول لمدة عامين، قد أعدّت بالقدر نفسه من البراعة الدفاع عن أنفاقها في مواجهة الغزو الإسرائيلي. وعلى الأرجح أنها خزنت الأسلحة والمواد الغذائية وغيرها من الأدوات التي تُستخدم في حرب الأنفاق.
ويرى أرثر هيرمان المتخصص في اقتصاديات الدفاع ومدير مبادرة التحالف الكمي بمعهد هدسون الأمريكي، أنّ حرب الأنفاق في أيدي الجماعات المسلّحة في المستقبل سوف تشكل مشكلة مستمرة على الرغم من كل الأسلحة والأدوات عالية التقنية التي تمتلكها الجيوش التقليدية، ويلمح إلى أنه ليس هناك ضمانة للنصر لهذه الجيوش، قائلًا "من يعتقد أنّ هناك ضوءًا في نهاية هذا النفق عليه أن يفكر مرة أخرى".