بعد ثلاثة أشهر من القتال الضاري لا إسرائيل حسمت الحرب ولا "حماس" رفعت الرايات البيضاء رغم أبشع حرب إبادة في التاريخ الحديث.
أحيت القضية الفلسطينية من جديد، وكما لم يحدث على مدى خمسة وسبعين عامًا منذ نكبة (1948).
بدت الهزيمة الإسرائيلية استراتيجية وأخلاقية معًا. ارتفعت أصوات مؤثرة ومسموعة داخل إسرائيل نفسها تدعو إلى الاعتراف بالهزيمة.
هكذا تعرّضت آلة الحرب الإسرائيلية إلى صدمتين متتاليتين، الأولى- انكشاف جهازيتها القتالية والاستخباراتية في السابع من أكتوبر.. والثانية- الفشل العسكري الذريع في المواجهات مع جماعات لا تمتلك أسلحة نوعية أو متقدّمة تقارب من قريب أو بعيد ما في حوزتها سوى إيمانها بقضيتها.
وقد كان تسريح خمسة ألوية متمركزة في غزّة بذريعة تنشيط الاقتصاد تعبيرًا صريحًا عن عمق الأزمة الداخلية وتململ أعداد كبيرة من مواطنيها وجنودها من استمرار الحرب دون أهداف واضحة تبرر الاستمرار فيها.
هناك يوم تالٍ، لكنه ليس ما توقعته وعملت على إعداد سيناريوهاته إدارة جو بايدن
من يوم إلى آخر تتغيّر أهداف الحرب. في البداية قيل "اجتثاث حماس" قبل أن يثبت بالميدان استحالته. ثم قيل "إضعاف حماس" وضمان ألا تعود إلى حكم غزّة، لكنه هدف بعيد.
خطوة بعد أخرى تكرر الارتباك نفسه في استعادة الأسرى والرهائن الإسرائيليين لدى المقاومة.
في فوضى تحديد الأهداف جرى طرح التهجير القسري بدوافع أيديولوجية وليست عسكرية من غزّة إلى سيناء.
كانت المقاومة خط الدفاع الأول عن القضية الفلسطينية والسيادة المصرية على سيناء معًا.
ما أهداف الحرب؟
لا توجد إجابة واحدة متماسكة حتى وُصفت بأنها "حرب بنيامين نتنياهو" سعيًا وراء البقاء في الحكم بأي ثمن خشية عزله وإيداعه السجن بتهم جنائية.
أخذت التشققات والشروخ تضرب البنية السياسية والعسكرية الإسرائيلية، الثقة في كفاءة "نتنياهو" على إدارة الحرب تقلصت والصراعات الداخلية أعلنت عن نفسها دون مواربة داخل مجلس الحرب.
التسريبات والإشارات تؤكد حالة فوضى غير مسبوقة.
إسرائيل في فوضى ولا تعرف ما أهدافها من الحرب.
تكفي الإشارة إلى مثال واحد حين أمر "نتنياهو" بتفتيش رئيس الأركان أعلى مسؤول في الجيش الإسرائيلي خشية أن يكون معه جهاز تسجيل؟!
المعنى أنّ أحدًا لا يثق في الآخر تحسّبًا ليوم تالٍ آخر يجري فيه الحساب على التقصير الفادح.
باليقين هناك يوم تالٍ، لكنه ليس ما توقعته وعملت على إعداد سيناريوهاته إدارة "جو بايدن".. وكلها تقارب الكوابيس في استهداف القضية الفلسطينية عند جذورها.
الإدارة الأمريكية مانعت عند طرح سؤال "اليوم التالي" في إعادة احتلال غزّة، أو بقاء القوات الإسرائيلية فيها، على عكس ما دعا إليه "نتنياهو". لم يكن هناك خلاف في الاستراتيجية المتصورة لما بعد الحرب، لكنها بدت أكثر حرصًا على مصالح إسرائيل من حكومتها اليمينية المتطرفة!
رفضت اقتطاع أجزاء من غزّة، أو بناء منطقة عازلة. كما دعت إلى "سلطة متجددة" تُشرف على غزّة والضفة معًا، بمعنى عزل مجموعة "محمود عباس" واستبدالهم بآخرين للعب أدوار التنسيق الأمني في غزّة بكفاءة أكبر مما جرى في الضفة.
لم يكن "نتنياهو" مع ذلك الرهان، فهو لا يعوّل على السلطة، ولا يعترف باتفاقية "أوسلو" التي أنشأتها، ولوّح عدة مرات باستخدام القوة المفرطة ضدها إذا ما تعاونت، أو فكرت في التعاون مع "حماس".
تحفظت السلطة على لعب ذلك الدور دون سقف سياسي يستند إلى "أوسلو" والعودة إلى موائد التفاوض حتى لا يقال إنها دخلت غزّة على دبابة إسرائيلية.
أمام الحسابات المتباينة جرى التفكير واستطلاع الرأي في إسناد الأدوار الأمنية لقوات عربية، لكن ذلك الخيار تبدد فور أن طُرح، فلا أحد مستعد أن يتحمل وزر حفظ الأمن الإسرائيلي على أنقاض القضية الفلسطينية.
أسوأ ما جرى طرحه استدعاء تجربة خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
كان ذلك النوع من التفكير صدامًا خشنًا مع الحقائق، فالوضع مختلف تمامًا والمقاربة لا تجوز على أي نحو، فالفلسطينيون هذه المرة يحاربون على أرضهم وليس لديهم أدنى استعداد لمغادرة أرضهم، أو التمركز خارجها مرة أخرى دون قدرة فعل.
بعدما فشل الجيش الإسرائيلي في الحصول على علامة نصر واحدة بغزّة قد يخاطر بالبحث عنها في لبنان
بسيناريو أيديولوجي مفرط في صهيونيته جرى استدعاء التهجير القسري هدفًا جديدًا، أو حلًا نهائيًا للمشكلة الديموجرافية بالتخلص من الفلسطينيين.
رغم تراجع ذلك السيناريو، فإنه ما يزال ماثلًا بصياغة جديدة عنوانها: "التهجير الطوعي" بجعل الحياة شبه مستحيلة في المدينة المنكوبة، التي هُدمت أغلب مبانيها وخرجت مستشفياتها من الخدمة وأُلغيت كافة مظاهر الحياة فيها تحت القصف المتواصل.
تحت الأفق السياسي الإسرائيلي المأزوم يلوح الآن سيناريو جديد لتمديد الحرب.
إنه توسيع نطاق الاشتباكات مع "حزب الله" بذريعة ضمان أمن الإسرائيليين في الشمال، الذين اضطروا إلى إخلاء مستوطناتهم.
بعدما فشل الجيش الإسرائيلي في الحصول على علامة نصر واحدة بغزّة قد يخاطر بالبحث عنها في لبنان رغم رسائل التحذير الأمريكية المتواترة من أنّ توسيع نطاق العمليات العسكرية قد يُفضي إلى حرب إقليمية واسعة.
إذا ما أمعنت إسرائيل في إنكار الواقع قد تجد نفسها أمام صدمة عسكرية أخرى أخطر وأفدح.
(خاص "عروبة 22")