نغامر بالإشارة إلى احتمالين متناقضين، الأول: هو أن يقود هذا التطوّر إلى اتساع الحرب لتشمل الشرق الأوسط كلّه، وهو الهدف الاستراتيجي الذي سعت واشنطن إليه ونجحت حتى الآن في الحيلولة بكل ما في وسعها دون حدوثه. والاحتمال الثاني هو أن يكون اغتيال العاروري مؤشرًا على أنّ الحرب في غزّة لن تطول سنة وشهورًا عديدة كما يكرّر نتنياهو ومجلس حربه، وأنها شمس تنحدر نحو المغيب خلال فترة أقصر من ذلك.
اتساع نطاق الحرب وفقدان السيطرة
لم يكن التصريح الفوري لرئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي بعد اغتيال العاروري عن أنها محاولة من إسرائيل لجرّ لبنان إلى حرب إقليمية إلا مؤشرًا بسيطًا على أنّ الاغتيال الآثم قد يفجّر الموقف المقيّد لجميع الأطراف خاصة على الجبهة الأخطر وهي جبهة الجنوب اللبناني. المؤشرات الأخطر تجد نفسها في هوية القائد الحمساوي الكبير وفي خطابه الوحدوي، وفي طبيعة أدواره في عملية المقاومة الفلسطينية، والأهم في مركزية دوره في العلاقات مع إيران و"حزب الله".
جمع بين قدرات عسكرية وسياسية وتميّز بتموضع خاص لنجاحه في إنتاج خطاب فلسطيني وطني وحدوي
العاروري كان شخصية استثنائية في "حماس"، ليس لأنه يُعتبر الرجل الثاني في الهيراركية القيادية للحركة، ولكن أيضًا لأنه جمع بين قدرات عسكرية وقدرات سياسية فذة في حين يتميّز معظم قادة "حماس"، إما بالتفوّق في الجانب السياسي أو الجانب العسكري وليس كليهما معًا.
تميّز العاروري أيضًا بتموضع خاص في الساحة الفلسطينية لنجاحه في إنتاج خطاب سياسي فلسطيني وطني وحدوي وغير متحزّب، وكان قادرًا باستمرار على تقديم لغة سياسية منضبطة وتتضمّن احترامًا لتاريخ فتح النضالي وتاريخ باقي الفصائل. ولهذا لم يكن غريبًا أن يبادر القائد الفتحاوي جبريل الرجوب إلى القول بأنّ "استشهاد العاروري خسارة فتحاوية قبل أن يكون خسارة حمساوية وهو خسارة لحركة التحرّر الوطني الفلسطيني".
العاروري أيضًا له قيمة سياسية ومعنوية منحته إياها الجغرافيا الفلسطينية خاصة في بنية "حماس" الغزاوية المنشأ. فهو ليس ابن قطاع غزّة مثل معظم قادتها، ولكنه ابن قرية عارورة في الضفة الغربية المحتلة، وقد أهّله هذا لاحقًا لدوره الفريد في الحركة، إذ إنه بات في العقد الأخير القائد الحمساوي الأول في الضفة الغربية والمسؤول الأول عن البنية العسكرية المتنامية لعمليات المقاومة المتزايدة التي جعلت الجيش الإسرائيلي قبل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول يركّز كل جهده على الضفة، وهو فراغ وثغرة جعلتا من مباغتة "طوفان الأقصى" لمخابراتها وجيشها اللطمة الأكثر إذلالًا في تاريخهما وتاريخ إسرائيل.
ولم يكن غريبًا مع وزنه الاستثنائي ألا تضع أمريكا ثقلها وراء اسرائيل في استهدافه، مخصّصةً خمسة ملايين دولار لمن يرشد عليه، فهو كان المسؤول الأول عن تدبير الأموال والأسلحة للمقاومة في الضفة.
هذه المسؤولية عن تدبير وتنويع مصادر السلاح للمقاومة جعلت من العاروري حلقة الوصل الحمساوية الرئيسية بالداعمين الإقليميين للمقاومة وهما "حزب الله" وإيران، وجعلته لا يفكر كثيرًا في أن تكون بيروت وجهته بعد أن قرّر الخروج من تركيا.
"حزب الله" تعهّد بالعقاب إلا أنه أوحى بوضوح أنّ ذلك لن يكون بتوسعة الحرب ولا بالرد العاجل
التحذيرات بأنّ اغتيال قادة "حماس" قد يكون مقدمة لحرب ليست جديدة، فقد بدأ عندما هدّد نتنياهو في أغسطس/آب الماضي العاروري مباشرةً، مؤكدًا بأنّ إسرائيل كدولة إرهاب ستعود لسياستها الإجرامية تاريخيًا في اغتيال القادة الفلسطينيين. وكان أول إنذار في هذا الاتجاه من العاروري نفسه الذي قال إنّ ذلك التهديد قد يقود لحرب في الشرق الأوسط، وأيّده وقتها تصريح من السيد حسن نصر الله أمين عام "حزب الله" - يرفض فيه العودة لاستباحة لبنان كساحة للاغتيالات الإسرائيلية - معتبرًا أنّ التهديد باغتيال أي لبناني أو فلسطيني، أمر لن يكون مقبولًا ولن يتم التسامح معه وسيترتب عليه عواقب وخيمة.
المؤشرات السابقة عن إمكانية تدحرج رد الفعل الإيراني ورد "حزب الله" لحرب إقليمية واسعة يحد منها ويقيّدها رد الفعل الإيراني على اغتيال إسرائيل رضا موسوي، أحد قادتها العسكريين الكبار في سوريا، قبل أكثر من أسبوع، والمتسم بالحذر والانضباط حتى الآن، وكذلك تصريحها بعد اغتيال العاروري الذي نقل مسؤولية الرد للدبلوماسية والأمم المتحدة: "اغتيال العاروري و2 من قادة القسّام انتهاك لسيادة لبنان وندعو الأمم المتحدة لرد عاجل ومؤثّر".
ورغم أنّ "حزب الله" تعهّد بالرد والعقاب على جريمة اغتيال العاروري والموسوي، إلا أنه أوحى بوضوح أنّ ذلك لن يكون بتوسعة الحرب ولا بالرد العاجل، فلقد دعا الحزب المقاومين مرّتين في ختام بيانه الاعتصام بـ"الصبر الجميل"، في الغالب حتى يحين الوقت المناسب لضربة عقاب لإسرائيل.
الأهم من ذلك، أنّ البيانات الإيرانية واللبنانية والفلسطينية لمحور المقاومة اتفقت كلّها على معنى واحد، وهو أنّ الاغتيال الإسرائيلي جبان يغطي على فشل إسرائيل في حرب غزّة ويبحث عن أي إنجاز عسكري أو معنوي حتى لو كان خارج جبهة القتال. وهذا يقودنا إلى الاحتمال الثاني الذي قد يعنيه ويؤذن به اغتيال العاروري.
البحث عن صورة نصر كمقدّمة لإنهاء الحرب
منذ اليوم الخامس والسبعين لحرب غزّة تدافعت التصريحات الإسرائيلية كالسيل المنهمر من عشرات من رؤساء ووزراء وجنرالات سابقين، منهم باراك وأولمرت، ملخّصها أن إسرائيل لن تنتصر ولن تحقق أهدافها في الحرب، وأنّ عليها أن تجد مخرجًا يحفظ ماء وجهها بإعادة المختطفين والتوصل لتفاهم مع واشنطن والعرب المعتدلين والسلطة الفلسطينية حول ترتيبات "اليوم التالي" للخروج من غزّة إلى منطقة حدودية عازلة تحتلها القوات الإسرائيلية على الحدود بين القطاع وغلاف غزّة. وتوحي تراجعات إسرائيل في تحديد أهداف الحرب من تصفية "حماس" إلى النزول لهدف أقل وهو تصفية خمسة أو ستة قيادات كبرى كان منهم العاروري.
واشنطن أقنعت مساعد نتنياهو بضرورة التركيز على أهداف منتقاة بعناية لحركة "حماس"
بعبارة أخرى، فإنّ إسرائيل - التي فشلت لنحو ٣ شهور في الحصول على صورة نصر يمكن أن تسوقه لشعبها المذعور - قد تعتبر أنّ قتل العاروري، وربما قائد أو اثنين آخرين من قادة المقاومة، بمثابة انتصار تستطيع أن تغطي به خسارتها الاستراتيجية للحرب وتيقنها من عجزها من تحقيق أهدافها غير الواقعية منها. يدعم ذلك ما ألمحت إليه تحليلات إسرائيلية من أنّ واشنطن أقنعت مساعد نتنياهو قبل أكثر من أسبوع بضرورة الانتقال إلى المرحلة الثالثة من العملية الإسرائيلية والتركيز على أهداف منتقاة بعناية لحركة "حماس".
قد تكون هذه الأهداف المنتقاة - في الإشارات الإسرائيلية الغامضة الكافية لوقف الحرب والانسحاب مع حفظ ماء الوجه - هي استهداف قادة "حماس".
(خاص "عروبة 22")