في هذا السياق، من الضروري الإشارة إلى أنّ الحديث عن "المرحلة الثالثة"، كان قد انطلق بشكل جدي بعد الإنتقادات التي وجهها الرئيس الأميركي جو بايدن لحكومة الاحتلال، في منتصف الشهر الماضي، محذرًا من أنها بدأت تفقد دعم المجتمع الدولي بسبب القصف العشوائي على قطاع غزّة. ثم، بعد ذلك، خلال الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إلى تل أبيب، حيث كان من الواضح أن الولايات المتحدة، التي تتشارك مع إسرائيل في الأهداف الإستراتيجية لهذه الحرب، تريد الإنتقال إلى نمط جديد من العمليات العسكرية، وُصف بأنه أشبه بـ"العمليات الجراحية".
أما وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، فقد كان قد تحدث عن 3 مراحل منظّمة من الحرب، بدءًا من المرحلة الأولى التي كانت تهدف إلى القضاء على "حماس"، ثم مرحلة بناء "نظام أمني جديد" في قطاع غزّة، وصولًا إلى الهدف النهائي وهو إعادة إحكام السيطرة على القطاع وتنصيب سلطة فلسطينية لتسيير شؤون إدارته وسكانه، ورفع مسؤولية إسرائيل عن هذه المهمة.
وفي هذا الإطار، تتحدث مصادر فلسطينية متابعة، عبر "عروبة 22"، عن مجموعة من الأسباب، بالإضافة إلى الضغوط أو المطالب الأميركية، تدفع إسرائيل إلى الإنتقال لمرحلة جديدة من العدوان، أبرزها العجز عن تحقيق أهداف العدوان على غزّة، في مقابل عدم قدرة القيادتين السياسية والعسكرية على إنهاء الحرب، بسبب التداعيات التي من الممكن أن تترتب على ذلك.
وتوضح المصادر أنّ "تل أبيب، في ظل الضغوط الداخلية التي تتعرّض لها، كان عليها البحث عن نمط جديد من العمليات يخفف من عبء الخسائر التي تتكبّدها، وهذا النوع من العمليات يسمح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبقاء في موقعه، من خلال تجنيب نفسه التعرّض للمحاسبة السياسية والقضائية عبر استمرار الحرب، كما أنّ ذلك يساعده على التخفيف من حدة الضغوط الخارجية عليه، من دون تجاهل عامل تقديم هذه العمليات أمام الرأي العام الداخلي الإسرائيلي على أساس أنها "إنجازات".
الذهاب إلى هذه النوع من العمليات، بالرغم من مخاطرها على مستوى اتساع رقعة الحرب، يعود بالنسبة إلى المصادر نفسها، إلى تقدير تل أبيب أنها لن تتعرض إلى الضغوط نفسها الناجمة عن الاستمرار بارتكاب المجازر ضد المدنيين، وهو ما يمكن الإستدلال عليه من خلال الموقف الأميركي، الذي عبّر عنه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، الذي أشاد باغتيال العاروري الذي قال إنه "كان مُدرجًا على قائمة الإرهاب ولا ينبغي لأحد أن يبكي على اغتياله"، كما وصفه المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر بأنه "إرهابي ووحشي ويداه ملطخة بدماء أبرياء".
وكان العديد من المسؤولين الإسرائيليين قد ألمحوا إلى الإنتقال إلى "المرحلة الثالثة" من الحرب، من خلال سحب بعض القوات الإسرائيلية من القطاع، والاتجاه لتنفيذ غارات وهجمات "عن بُعد" بناء على المعلومات الاستخباراتية. وبحسب صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، فإن الهجمات، في "المرحلة الثالثة"، ستركز على تدمير البنية التحتية لـ"حماس"، في المناطق التي أنهت فيها القوات الإسرائيلية القتال.
بالتزامن، كانت تل أبيب قد أعلنت، في الأيام الماضية، سحب ما يقارب 5 ألوية من قطاع غزّة، في حين أوضح مسؤول إسرائيل أنّ هذا القرار أتى في إطار إطلاق "المرحلة الثالثة" من الحرب والتحوّل إلى عمليات أكثر استهدافاً ضد "حماس"، مشيرًا إلى أنّ تلك الخطوة تعيد قدرًا من جنود الاحتياط إلى الحياة المدنية ما يساعد الاقتصاد الإسرائيلي مع دخول عام جديد قد تستمر فيه الحرب لفترة طويلة، وفق ما نقلت وكالة "رويترز".
أما بالنسبة إلى حجم الخسائر التي يتعرض لها الاقتصاد الإسرائيلي، فكانت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية قد أوردت، بحسب تقديرات اقتصاديين أجرت مقابلات معهم، أنّ الحرب الجارية كلفت الحكومة الإسرائيلية حوالى 18 مليار دولار، أي ما يعادل 220 مليون دولار يوميًا. وأوضحت أن الاقتصاد لا يتحمل تبعات دفع تكاليف قوات الاحتياط والقنابل والذخيرة فحسب، بل أيضًا مصاريف مئتي ألف شخص من الذين تم إجلاؤهم من القرى الإسرائيلية على طول حدود غزّة والحدود الشمالية مع لبنان.
في مطلق الأحوال، الذهاب إلى "المرحلة الثالثة" من العدوان يُعد، من وجهة نظر العديد من المتابعين، "هروبًا إلى الأمام" بعد الفشل في تحقيق الأهداف منه. لكن السؤال الأساسي يبقى حول التداعيات التي من الممكن أن تترتب على ذلك، في ظل المعلومات عن أن عملية إغتيال العاروري قادت إلى وقف مفاوضات وقف إطلاق النار.. فهل تشكّل هذه العملية شرارة إطالة أمد العدوان واتساع رقعة استهدافاته، أم أنّها تأتي ضمن إطار تصعيد "الربع الساعة الأخير" قبل الذهاب إلى التسوية المنتظرة؟.
(خاص "عروبة 22")