في ديوان السلطان العثماني كان هناك موظف اسمه «المكتوبجي» مهمّته أن يفحص ويراقب الصحف، وتطبيقًا لبنود اللائحة جرى «المكتوبجي» على حذف كلمات مثل «ثورة، ودستور، وظلم، وحقوق الأمة.. إلخ».
وعندما اندلعت ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 الاشتراكية في روسيا ضد القيصرية، عرضت إحدى الصحف على «المكتوبجي» خبرًا عن أحداث الثورة، فوجده يحوي كل الكلمات التي تحرّمها اللائحة مثل «الدستور، الحرية، والطغيان»، فشطبها جميعًا، ولم يبقَ من الخبر سوى سطر واحد نشرته الصحيفة في اليوم التالي وكان نصه: «حدث أمس مشاجرة في روسيا».
مزجت أنظمة الاستبداد العربي بين لائحة «مكتوبجي» ونظريات جوزيف غوبلز لتغييب وعي الشعب
وبما يتوافق مع مقتضيات العصر الحديث وأدواته، استحدثت أنظمة الحكم العربية تشريعات ولوائح وممارسات تحدّ من حرية الصحافة وتحاصر حق المواطن في المعرفة، فاستبدلت «المكتوبجي» الذي عمل في البلاط العثماني قبل 100 عام، بأجهزة وهيئات أوكلت إليها مراقبة المحتوى الصحفي حتى لا يتسرّب إلى المواطن المغلوب على أمره إلا أخبار تحركات ومقابلات وإنجازات أصحاب الفخامة والسيادة والمعالي.
عانت الصحافة العربية ولا تزال من سيطرة الحكومات على مقاليدها وتحكّم الأجهزة الأمنية في ترتيب أجندتها التحريرية، فصار معظمها أقرب إلى نشرات ترويجية لا تُشبع شغف المتلقي في المعرفة ولا تحقق ما يسعى له من تنوع، وهو ما دفع الجمهور إلى هجرتها لفضاء مواقع التواصل الاجتماعي الأرحب، حتى تنبّهت الأنظمة للدور المحوري الذي لعبته تلك المنصات في ثورات الربيع العربي، فأحاطتها بسياج الرقابة المُشرعنة شأنها شأن وسائل الإعلام التقليدية، واستهدفت روادها ووضعتهم تحت مقصلة الملاحقة والسجن.
مزجت أنظمة الاستبداد العربي بين لائحة «مكتوبجي» البلاط العثماني التي كانت تهدف إلى حجب الحقائق عن الناس، ونظريات جوزيف غوبلز وزير الدعاية الألماني إبان حكم أدولف هتلر والتي استهدفت تغييب وعي الشعب بإشاعة الأكاذيب ونشر الدعاية لإقناع الناس بسياسات الفوهرر والحزب النازي.
«مراسلون بلا حدود»: المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم خطورة على سلامة الصحفيين
ومع تطوّر التقنيات التكنولوجية صار في كل دولة عربية جهاز أقرب إلى «وزارة الحقيقة» التي ذكرها الأديب البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984» وتنبأ فيها قبل 70 عامًا بظهور جمهوريات «الأخ الكبير» الذي يحسب على الناس أنفاسهم، وتتولّى أجهزته صياغة الواقع وتشكيله بهدف إخضاع الجميع لنظامه.
أورويل قال في روايته إن وزارة «الحقيقة» هي المسؤولة عن إتاحة المعلومات والأخبار للشعب، لكن دورها الحقيقي كان إخفاء المعلومات وتزييف الأخبار وتجهيل الناس وإقناعهم بأنهم يعيشون في أزهى العصور، هذا بالضبط ما تقوم به الأجهزة والهيئات المسؤولة عن تنظيم الصحافة في معظم الأقطار العربية.
في تقريرها الأخير عن حرية الصحافة في العالم، صنّفت منظمة «مراسلون بلا حدود» المنطقة العربية على أنها من أكثر مناطق العالم خطورة على سلامة الصحفيين، واحتلّت غالبية الدول العربية مستويات متأخرة في التصنيف بين درجتي «خطير للغاية» و«صعب».
حرية الصحافة ليست ضمانة للشعوب فقط، بل للدولة بكل مؤسساتها
التقرير الذي صدر مطلع مايو (أيّار) الماضي، ذهب إلى أنّ «الصحافة لا تزال تئنّ تحت وطأة السيطرة الخانقة في الشرق الأوسط، سواء على أيدي الأنظمة الاستبدادية أو بفعل الرقابة التي تفرضها المليشيات على وسائل الإعلام، حيث يُعتبر وضع حرية الصحافة (خطيراً للغاية) في أكثر من نصف دول المنطقة».
الحجب والمنع والرقابة التي تمارسها سلطات البلاد العربية على الصحافة، وملاحقة الصحفيين واحتجازهم استنادًا إلى تهم باطلة لن يصنع استقرارًا ولا تنميةً أو تقدمًا، فستظل تلك التعبيرات مجرد عناوين في الصحف ونشرات الأخبار فقط، فيما ستستمر بلادنا ترزح في بحور الفساد والاستبداد والفقر والتخلّف، طالما غُيّبت المعلومات وحُصرت الأفكار.
حرية الصحافة ليست ضمانة للشعوب فقط، بل للدولة بكل مؤسساتها، فالنظام الأميركي على مدى أكثر من ثلاثة قرون لم ينهَر رغم ما تمارسه الصحافة من نقد وما تكشفه من خبايا وأسرار مؤسسات الدولة مدنية كانت أم عسكرية، وكذلك الملكية البريطانية بشكلها الحديث لم تتلاشَ رغم ملاحقة وحصار الصحافة الإنجليزية للمسؤولين أيًا كان موقعهم، في حين لم تُنقذ آلة غوبلز الدعائية ألمانيا النازية من الانهيار، ولم يمنع «مكتوبجي السلطان» الإمبراطورية العثمانية من التفكّك.
(خاص "عروبة 22")