وجهات نظر

"حصاد التراخي".. إسرائيل تطوّق مصر من الجنوب

بعد توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات اتفاقية "كامب ديفيد" مع إسرائيل التزمت الأنظمة المصرية المتعاقبة بالسلام باعتباره "خيارًا استراتيجيًا"، فيما لم تتوقف الدولة العبرية منذ ذلك الحين عن محاولات تطويق مصر والعبث بأمنها القومي على كل المحاور.

عزل مصر عن محيطها العربي، وحصار محورها الجنوبي والسيطرة على منابع نهر النيل - شريان حياة المصريين - كانت ولا تزال على رأس أهداف إسرائيل الاستراتيجية، لم يُثنها عن تحقيقها أي ظرف حتى لو كانت تحارب على أكثر من جبهة.

صاغ ديفيد بن جوريون هذا الهدف قبل بداية تأسيس إسرائيل وكتب في يومياته يقول: "إنّ مصر وحدها هي التي يُحسب لها حساب في المنطقة، فهي التي تقدر إذا واتتها الظروف الملائمة علي توحيد العرب، لكن مصر أشبه ما تكون بزجاجة، وعنق الزجاجة سيناء، وإذا قامت إسرائيل في فلسطين، فإنّ إسرائيل سوف تقوم بدور الغطاء الذي يمكن كبسه في عنق الزجاجة، فيحكم إغلاقة وختمه ويحبس الخطر داخل قمقم لا يخرج منه".

وكما أُحكم "الغطاء" من الشمال الشرقي لعزل مصر عن محيطها العربي، عملت إسرائيل على وضع "غطاء" آخر في الجنوب لحصارها والإضرار بمصالحها على المحور الأفريقي، مستغلةً فقر واحتياج دول القارة السمراء للمساعدات.

لا يمكن فصل الاتفاق الذي أبرمته إثيوبيا مع "صوماليالاند" عن المخططات الإسرائيلية

كانت إثيوبيا من أوائل الدول التي استهدفت إسرائيل توطيد علاقاتها بها بتحقيق هذا الهدف، فرغم العلاقة الودية التي كانت تربط الإمبراطور هيلا سيلاسي بالدول العربية، إلا أنّ بلاده اعترفت مبكرًا بإسرائيل.

"من المجالات الرئيسية التي قامت عليها العلاقات الإثيوبية الإسرائيلية التعاون الأمني نظرًا لوجود مصالح مشتركة بين البلدين لصد التوغل العربي والحفاظ على حرية الملاحة في البحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية طبعًا"، يشرح الدبلوماسي الإسرائيلي آريه عوديد طبيعة تلك العلاقة في كتابه "إسرائيل وأفريقيا".

قطعت أديس أبابا علاقتها مع إسرائيل مع اندلاع حرب 1973، وما لبثت أن عادت نهاية الثمانينيات في حقبة حكم منجستو هيلا مريام الذي أطاح بحكم الإمبراطور سيلاسي، ومنذ ذلك الحين تعاقبت أنظمة عدة على حكم إثيوبيا التي عانت من حروب جهوية وقبلية أدت إحداها إلى انفصال إريتريا التي كانت منفذ إثيوبيا على البحر الأحمر، حافظت تلك الأنظمة على العلاقة مع تل أبيب باعتبارها شريكًا يمكن الوثوق به في مواجهة العداءات العربية المحيطة.

لم تُخف الدولة العبرية مطامعها في السطو على مياه النيل والتحكم في سريانه إلى مصر، وتحدث بعض ساستها عن ضرورة مد فرع من النيل إلى صحراء النقب، وهو ما قبله السادات خلال مفاوضات كامب ديفيد لكنه تراجع تحت الضغوط الشعبية.

حينها بدأت إسرائيل في محاولة فرض واقع جديد يمكّنها من السيطرة على دول المنبع ويقرّبها من مدخل البحر الأحمر، عبر إقامة شراكات عسكرية وأمنية مع تلك الدول وعلى رأسها إثيوبيا، وتعززت تلك الشراكات بمشروعات تنموية في مجالات الري والزراعة، وبالتوازي حرّضت وكلاءها في تلك الدول على المطالبة بإعادة النظر في اتفاقيات توزيع مياه النيل بين دول المنبع والمصب.

كانت إثيوبيا هي الوجهة الأهم في التعاون العسكري والاستخباري لتل أبيب منذ اعتراف أديس أبابا بإسرائيل عام 1954، توّجت تلك العلاقة بالدعم غير المحدود الذي تلقاه رئيس الوزراء الإثيوبي الحالي آبي أحمد في صراعه مع متمرّدي جبهة تحرير شعب تيغراي، إذ لم يُخفِ على أحد المساعدات العسكرية التي حصل عليها من إسرائيل وبعض حلفائها الجدد في الإقليم.

ضمن التحركات التي تدعم مخطط تطويق مصر من الجنوب دعم حكومة آبي أحمد لمليشيا "الدعم السريع"

لم توقف الحرب التي اندلعت في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إسرائيل عن استكمال مخططها الرامي إلى العبث بالأمن القومي المصري والعربي في منابع النيل ومدخل البحر الأحمر، فلا يمكن فصل الاتفاق الذي أبرمته إثيوبيا مع إقليم "صوماليالاند" الانفصالي، للحصول على قاعدة ساحلية تجارية وعسكرية لها على خليج عدن، عن المخططات الإسرائيلية الرامية للسيطرة والتحكّم في تلك المنطقة.

الاتفاق الذي عارضته مصر وتحفظت عليه جامعة الدول العربية، يأتي في إطار محاولات إسرائيل دفع أديس أبابا خلال السنوات الأخيرة للخروج إلى البحر الأحمر، حتى تتمكن من إعادة بناء قواتها البحرية التي تفككت بعد استقلال إريتريا عنها مطلع تسعينيات القرن الماضي.

"تسعى إثيوبيا إلى التواجد العسكري في مدخل البحر الأحمر لمواجهة أي تهديد محتمل تمثله مصر على سد النهضة"، يشرح مصدر مصري مطلع أبعاد الاتفاق الأخير، لافتًا إلى أنّ أديس أبابا بدأت التفكير في إعادة بناء قواتها البحرية والخروج مجددًا إلى البحر الأحمر بعد التهديدات المصرية التي حذرت من المساس بحق مصر في مياه النيل والتي أعلنها الرئيس السيسي قبل عامين.

وفقًا للمصدر ذاته، فإنّ التحركات الإثيوبية مدعومة إسرائيليًا ومِن طرف عربي، يمكن أن نعتبره "شريكًا في كل التهديدات التي تمس الأمن القومي العربي على كل المحاور".

ضمن التحركات التي تدعم مخطط تطويق مصر من الجنوب، والتي تجري كلّها بالتوازي مع إصرار إثيوبيا على إفشال المسار التفاوضي بشأن سد النهضة، دعم حكومة آبي أحمد لمليشيا "الدعم السريع" في السودان وتسويق زعيمها محمد حمدان دقلو "حميدتي" دبلوماسيًا لفرضه على دول القارة باعتباره ممثل السودان الجديد، رغم ما هو معلوم من خلافاته مع مصر ورفض الدول العربية التعامل معه لتاريخه الحافل بالمجازر وجرائم الحرب ضد الشعب السوداني.

أنظمة "كامب ديفيد" المتعاقبة تتحمّل مسؤولية نجاح تل أبيب في جر دول عربية للحاق بقطار التطبيع

"سيطرة مليشيا الدعم السريع على السودان تمثل تهديدًا كبيرًا لمحور الأمن المصري الجنوبي، وتبني أديس أبابا وتل أبيب له يضاعف من خطره"، يضيف المصدر لافتًا إلى أنّ مصر محاطة بكتل من النار من كل جانب.

تدفع مصر حاليًا ثمن تراخي أنظمة "كامب ديفيد" المتعاقبة في التعامل مع التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا، كما تتحمّل تلك الانظمة مسؤولية نجاح تل أبيب في جر دول عربية للحاق بقطار التطبيع.

ظنّ خلفاء السادات أنّ صراع بلادنا مع الدولة العبرية انتهى بتوقيع اتفاقية السلام، وانشغلوا بالأزمات الداخلية وأهملوا محاور الأمن القومي وأدوات الدور الإقليمي، وهو ما مكّن إسرائيل من استكمال تنفيذ مخططها بحصار مصر وإضعافها حتى لا تُشكّل أي خطر على وجودها.

ما لم يُعد صُنّاع القرار في مصر النظر في قواعد التعامل مع تهديدات الدولة العبرية لبلادنا على كل المحاور، فسنجني حتمًا الحصاد المرّ من الاستمرار في سياسة التراخي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن