نجحت الثورة التونسية في تجاوز كل المطبات التي واجهتها نظيراتها في مصر وليبيا وسوريا واليمن، إذ سقط النظام وظلت الدولة، واجتمع صوت الشعب التونسي حول قضايا وطنية موحّدة دون أن تظهر أي بوادر تفرقة أو صدام طيلة أيام الثورة التي كانت بدورها عفوية وبلا قادة ولا برامج مسبقة. كل هذا جعل المراقبين يرجّحون نجاح التجربة وولادة نموذج ديمقراطي عربي، ولكن كل التوقعات سقطت.
كانت الصورة المتداولة في الخارج عن تونس، من صياغة دستور وتكوين هيئات رقابية مستقلة وإجراء انتخابات نزيهة وتداول سلمي على السلطة وغيره، برّاقة تشي بأنّ البلاد تسير في الطريق الصحيح، لكن كل هذه التغييرات كانت تطال الحياة السياسية حصرًا فيما لم تجد سبيلها إلى المسائل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت في المقابل تنهار تدريجيًا دون أن تنجح الحكومات العديدة التي تداولت على الحكم في تونس في وقف النزيف وإيجاد الحلول قبل أن تأتي اللحظة التي شعر فيها المواطن التونسي بأنّ الديمقراطية جعلته يتخلّص من القيود التي فرضها نظام بن علي ويتمتّع بحريّته، ولكنها لم تحمِه من الجوع ولهذا لم يدافع عنها حتى عندما أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد ما سمي بالإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو/تموز 2021 وإمساكه بكل السلط.
البطالة.. وغياب البرامج الاقتصادية
قبل الثورة كانت تونس تعيش في ظل نظام دكتاتوري وملاحقة بوليسية للحقوقيين والمعارضين، لكن الوضع الاجتماعي والاقتصادي كان متوازنًا في ظل استقرار المقدرة الشرائية واستقرار نسبي للاقتصاد والتنمية، وكان رهان التونسيين من الثورة أن تكسر القيود على حريتهم وتتحسّن ظروف معيشتهم. لكن ما حدث هو أنّ المتوفر قبل الثورة قد تهاوى بعدها بمستويات قياسية في ظل تتالي الحوادث الإرهابية واستمرار الانقسام السياسي وغياب البرامج الاقتصادية الحقيقية للأحزاب السياسية. إذ أدى تغليب الإصلاحات السياسية على الإصلاحات الاقتصادية إلى تعثّر النمو وارتفاع والبطالة وانخفاض فرص التشغيل وارتفاع معدلات الفقر وتقهقر الطبقة الوسطى وانهيار المقدرة الشرائية مباشرة بعد 14 يناير/كانون الثاني 2011. حيث بلغ النمو الاقتصادي في تونس نسبة 3.7% سنة 2012، ونسبة 2.6% سنة 2013، و2.3% سنة 2014 ثم انهار سنة 2015 ليصل إلى 0.8%. ومع ظهور جائحة كورونا سنة 2020 تراجع النمو الاقتصادي ووصل الى حدود 8.8-% وتراجع معه الناتج المحلي الإجمالي وتفاقم العجز التجاري إلى 11.2% من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة لم يسبق أن سجلتها تونس. واستمر التراجع في التفاقم حتى هذا اليوم.
وبلغت نسبة البطالة سنة 2023 حوالى 16% (قرابة نصفهم من حاملي الشهادات الجامعية)، و17% سنة 2022 و17.8% سنة 2021، و17.6% سنة 2020، علمًا أنها قفزت منذ السنة الأولى للثورة بنسبة 5.3% لتصل في مايو/أيار 2011 إلى 18.3% مقابل 13% في الشهر نفسه من سنة 2010. وباتت الدولة تعيش على وقع أزمة اقتصادية ومالية خانقة تفاقت على مدار السنوات الـ13 التي تلت الثورة دون أي مؤشر عن حدوث انفراجة على المدى القريب في ظل ارتفاع المديونية والعجز التجاري. كذلك برزت عدة ظواهر سلبية جديدة على غرار الانقطاع المبكر عن الدراسة الذي أصبح معضلة كبرى في المنظومة التعليمية، وانتشار استهلاك المخدرات في صفوف الشباب لا سيما تلاميذ المدارس والمعاهد وتنامي معدلات العنف.
الانتكاسة.. ومسبّباتها
ولم تكن هذه الانتكاسة الكبرى للثورة التونسية التي راهن عليها عموم التونسيين، وحتى بقية الشعوب العربية، قد حدثت اعتباطيًا بل هناك جملة من المسبّبات اجتمعت فيما بينها حتى أوصلت البلاد إلى هذه النتيجة:
أولًا، فشل السياسيين التونسيين في إدراك أنّ الثورة لم تكن من تحريك أو إشراف أو توجيه أي حزب سياسي بعينه وأنّ من قام بها هم شباب مهمّشون ورافضون لواقعهم ومتطلعون لغد أفضل، فانساقوا وراء المناصب والصراع من أجل الحكم حتى نسوا الأهداف الكبرى التي جاؤوا من أجلها فلفظهم الشباب ذاته عندما تيقّن من أنّ تطلّعاته ليست ضمن برامجهم.
ثانيًا، هرولة كل النخبة السياسية المعارضة لبن علي إلى الحكم والسلطة دون أيّ تصوّرات أو برامج أو خبرات قادرة على تلبية متطلّبات مرحلة ما بعد الثورة بكل دقتها وخطورتها.
ثالثًا، تركيز النخب السياسية، الحاكمة والمعارضة، على الجوانب الشكلية في الحكم والمتمثلة أساسًا في الانتخابات لإيهام الرأي العام الدولي بأنّ هناك مسارًا ديمقراطيًا وتداولًا سلميًا على الحكم، في حين أسقطوا عمدًا الجانبين الاجتماعي والاقتصادي الأمر الذي أدى تدريجيًا إلى حدوث هوة سحيقة بين الشعب والساسة الذين باتوا في نظر المواطنين سببًا مباشرًا لبؤسهم ولعل هذا ما يفسّر صمتهم اليوم رغم تفرّد سعيد بالحكم والزج بالكثير من الساسة في السجون.
رابعًا، تعاطي الأحزاب السياسية مع المواطنين كخزان انتخابي للوصول إلى السلطة لا غير في حين تغيب الوعود بمجرد تحصيل الكراسي، وهو ما أدى في مرحلة أولى لعزوفهم عن المشاركة في العملية الانتخابية في المواعيد المحددة، فالمطالبة برحيلهم في عدة تحركات احتجاجية، ثم الاحتفال في الشوارع عندما غادروا المشهد السياسي ليلة 25 يوليو/تموز2021.
المؤرخ التونسي والناطق الرسمي الأسبق باسم رئاسة الجمهورية عدنان منصر يرى أنّ هناك أسبابًا مترابطة وهيكلية لما يمكن تسميته بفشل الثورة في تحقيق أهدافها. ويقول موضحًا لـ"عروبة22": "الآن نحن في وضعية أكثر تعقيدًا، فشل الثورة وفشل التجربة الديمقراطية معًا. وأعتقد أن المشكلة هنا تكمن في جزء منها في الاعتقاد الذي كان سائدًا بأنّ تأسيس ديمقراطية ليبرالية على النمط الغربي يمكن أن يمثّل نجاحًا للثورة، ما يضعنا في منظومة الثورات الليبرالية، وهذه الثورات لم تحقق في الماضي سوى رغبات الطبقات البورجوازية. يعني ذلك ببساطة أنّ النموذج الذي أنشأته الطبقة السياسية الفاعلة في تونس طيلة السنوات العشر الماضية بين 2011 و2021 كان سيؤدي إلى خدمة الطبقات المسيطرة مع إعطاء انطباع بالحياة الديمقراطية، أي أنه نموذج لا يضع في رهاناته أصلًا تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للفئات الضعيفة. وبالتالي فإنّ قراءة الشعبوية في هذا الجانب هي إذًا قراءة معقولة وموضوعية".
لكن منصر يستدرك قائلًا: "لا يعني ذلك أنّ ما أتى فيما بعد، أي منذ إلغاء دستور 2021، سيحقق أو أنه بدأ في تحقيق رغبات الناس الاقتصادية والاجتماعية. فالشعبوية ترتكب اليوم الأخطاء القاتلة، ولكن بحريات أقل وباستبداد يتوسع في الممارسات يومًا بعد يوم. والنخب التي شاركت في صياغة النظام السياسي طيلة عشرية الديمقراطية الليبرالية تتحمل مسؤولية كبيرة بالفعل، لأنّ النموذج الليبرالي الذي وقع الاتفاق على تبنيه وتطبيقه، لم يكن قادرًا على إنتاج وضعية أخرى. وهذا في نظري سبب هيكلي رئيسي لفعل التجربة الديمقراطية: اتباع نموذج تم نقله حرفيًا ومحاولة تطبيقه على وضع لا يمكن أن يضمن نجاحه"، مشيرًا إلى أنّ "ما حصل هو استقلال النخب عن انتظارات الفئات الضعيفة وحياتها".
وأردف: "لنأخذ موضوع التحالفات السياسية التي أفقدت الانتخابات والمؤسسات مصداقيتها كمثال. في المنظومة السياسية الليبرالية هذه التحالفات مقبولة، لكنها في البيئة التونسية كانت غير مقبولة أخلاقيًا، وإن كانت معقولة سياسيًا ومؤسساتيًا. هذا سبب رئيسي في فقدان المؤسسات والديمقراطية والنخب السياسية شرعيتها الأخلاقية، حتى وإن تصرّفت بطريقة قانونية ومسموح بها في الغالب. وهذه التجربة الديمقراطية في تونس سقطت أخلاقيًا، لأنها قامت على نقل نموذج ليبرالي يعمّق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية أولًا، فكان النموذج المتّبع قاصرًا ببساطة، وهذا ما يعطي الشعبوية اليوم قبولًا واسعًا لدى الناس".
(خاص "عروبة 22")