وجهات نظر

"أولويات" مغلوطة

لا شك أنّ الانحياز الأمريكي المطلق والسافر لإسرائيل أصبح منذ نشأتها من مسلّمات الصراع العربي - الإسرائيلي، ولا يوجد استثاء لهذه المُسَلّمة إلا اعتراض الرئيس دوايت أيزنهاور على العدوان الثلاثي (البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي) على مصر في ١٩٥٦، وإصراره لاحقًا على انسحاب إسرائيل من سيناء وغزّة، وهو ما تم بالفعل في١٩٥٧، مع العلم بأنه حتى هذا الموقف اليتيم لم يكن من قبيل التأييد لحركة التحرّر العربي بقيادة مصر آنذاك، فقد كانت الولايات المتحدة هي السبب الأصيل في تفجّر أزمة السويس، وإنما كان لتأكيد أنّ قيادة التحالف الغربي قد باتت احتكارًا للولايات المتحدة، ولا يصح لدوله التصرّف دون استئذانها.

أما الأمثلة الأخرى التي قد تشير لاختلاف بين السياستين الأمريكية والإسرائيلية، كالتصويت مرّتين في عهدي كارتر وأوباما ضد الاستيطان الإسرائيلي، فقد كانت مشروع اعتراض سرعان ما تم إجهاضه والتراجع عنه، ويظهر العدوان الإسرائيلي الحالي على غزّة هذه الحقيقة كأجلى ما تكون، فقد قدمت الإدارة الأمريكية منذ الوهلة الأولى الدعم الدبلوماسي الكامل لإسرائيل متمثلًا بصفة أساسية في تبني وجهة النظر الإسرائيلية دون قيد أو شرط، ومنع أي إدانة لإسرائيل في مجلس الأمن، وتزويدها بكل ما تحتاجه من سلاح على نحو استثنائي بسبب خسائرها الجسيمة في القتال، بما في ذلك آخر صفقتين اللتين أُرسلتا لها دون العرض على الكونجرس كحالتين طارئتين.

والأخطر من ذلك المشاركة غير المباشرة بتزويدها بالمعلومات التي توفرها القدرات الاستطلاعية الأمريكية، وحشد القطع البحرية في البحرين المتوسط والأحمر كردع لأي تدخل محتمل في غير صالح إسرائيل، وأخيرًا وليس آخرًا الانخراط المباشر في المجهود الحربي الإسرائيلي بالهجمات على قواعد عسكرية يمنية في محاولة لردع صنعاء عن الاستمرار في اعتراض الملاحة الإسرائيلية أو المتجهة لإسرائيل.

من أهم إنجازات ٧ أكتوبر أنه أعاد أمور الأولويات في المنطقة إلى نصابها

غير أنّ الإدارة الأمريكية لم تكتفِ بكل ما سبق من مظاهر انحياز صارخ ودعم مطلق، لم ينجح بعض التصريحات المعتدلة التي اضطُرت إليها بسبب زيادة الضغوط عليها في التخفيف من غلوائهما، وإنما هي - أي الإدارة الأمريكية - تنشط الآن بشدة من خلال وزير خارجيتها في محاولة صياغة المستقبل بما يلائم الأهداف الإسرائيلية والأمريكية، وأتخيّر هنا فكرتين ألحّ أنتوني بلينكن عليهما تبيّن حقيقة النوايا الإسرائيلية والأمريكية، فقد خرج علينا بعد جولته الأخيرة في عدد من الدول العربية والإسلامية بأفكار مشبوهة تتعلق بحكم أو إدارة غزّة بعد انتهاء القتال ضد المقاومة الفلسطينية الذي عجزت إسرائيل وحلفائها عن إنهائه لما زاد عن ثلاثة شهور حتى الآن، وكذلك بخصوص دمج إسرائيل في المنطقة، وكل من الفكرتين أعجب من الأخرى.

فكيف يستقيم بعد كل التضحيات التي قدّمها الشعب الفلسطيني عامةً، ومنذ ٧ أكتوبر/تشرين الأول خاصة، أن تكون المشكلة هي الدول التي ستتولى إدارة غزّة دون حرف واحد عن استقلالها مع الضفة وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، وكأن ٧ أكتوبر قد مرّ مرور الكرام في تاريخ النضال الفلسطيني.

أما العجب العجاب فهو ألا يجد بلينكن توقيتًا أسوأ من هذه اللحظة التي تخضب فيها دماء عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى الفلسطينيين أيدي مجرمي الحرب الإسرائيليين وكل من يواليهم لكي يعلن أنه استمع في جولته لما يجعله على يقين من أنّ فرص دمج إسرائيل في المنطقة ما زالت قائمة، فهل تراه فقد قدرته على الإدراك بحيث يطرح هذه الفكرة في هذا التوقيت بالغ الحماقة؟.

ما تم من تطبيع لا بد وأن يخضع لمراجعة حقيقية على ضوء ما تأكد بخصوص النوايا الحقيقية للمشروع الصهيوني

لقد كان واحدًا من أهم إنجازات ٧ أكتوبر/تشرين الأول الماضي أنه أعاد أمور الأولويات في المنطقة إلى نصابها، فقبله بدا وكأن المشكلة الأساسية فيها هي كيفية استكمال التطبيع العربي مع إسرائيل وسيناريوهات إخراجه، وبعده عادت القضية الفلسطينية لتتصدّر قائمة الأولويات، ويثبت المناضلون من أجل استرداد حقوق الشعب الفلسطيني مجددًا منذ ٧ أكتوبر/تشرين الأول أنه بدون التسوية العادلة لها لا استقرار ولا سلام في الوطن العربي والشرق الأوسط.

ومن المؤكد أنّ خطى ما تبقى من التطبيع سوف تتعثر نتيجة للوحشية الإسرائيلية التي بدت في الأعمال القتالية وغيرها التي واجهت بها إسرائيل شعب فلسطين ونضاله، بل إنّ ما تم من تطبيع بالفعل حتى الآن لأسباب مختلفة لا بد وأن يخضع لمراجعة حقيقية على ضوء ما تأكد بخصوص النوايا الحقيقية للمشروع الصهيوني ليس فقط في فلسطين وإنما أيضًا تجاه دول جوارها، بل والوطن العربي ككل، وإذا لم تكن الإدارة الأمريكية قد فهمت أنّ شعب فلسطين ومؤيديه لن يسمحوا باستمرار هذا المشروع فلتنتظر هي أو خليفتها مزيدًا من ضربات المقاومة في العملية التاريخية لتحرير فلسطين.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن