السبب الرئيس لمسار التردي السوري، يكمن في وجود سلطات الأمر الواقع، التي باتت تتوزع السيطرة والإدارة في المناطق جميعها. حيث يسيطر نظام الأسد تحت الرعاية الروسية - الإيرانية وتدخلاتها (التي تبلغ حد التفاصيل في بعض الموضوعات والمستويات) على منطقة الساحل إضافة الى الوسط من حلب شمالًا إلى درعا في الجنوب، فيما تسيطر الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) فرع حزب العمال الكردستاني التركي (PKK) تحت الرعاية الأمريكية، وتتوزع السيطرة في منطقة النفوذ التركي في شمال غرب سوريا بين حكومتين أولها الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني المقيم في تركيا، والثانية تحت النفوذ التركي، وهي حكومة الإنقاذ التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" وريثة "جبهة النصرة" الموصوفة بأنها جماعة إسلامية متطرّفة باعتبارها فرع "القاعدة" في سوريا.
نظام الأسد غرق في الفوضى وهي حالة يتشارك فيها مع الحالة القائمة في الشمال الشرقي والشمال الغربي لسوريا
وتُعتبر سلطات الأمر الواقع الشكل الحالي لنظام السيطرة والإدارة أبرز النتائج عن سنوات الحرب، التي تقترب من نهاية عامها الثالث عشر، وهذه الصفة لا تنطبق على سلطتَي الشمال السوري فقط، بل حتى على نظام الأسد الذي وإن قيل إنه استمرار للنظام الذي كان قائمًا قبل اندلاع ثورة آذار 2011، فانه تبدّل بصورة جذرية لدرجة يمكن القول، إنّ ما بقي من النظام القديم قليل، الأهم فيه نواة السلطة، التي يقودها دكتاتور قاتل مع بطانة محدودة، ومجموعة مديرين هي أقرب إلى أدوات المليشيات المسيطرة في الشمال في شرقه وغربه من قربها إلى أركان وأدوات نظام الأسد الذي نعرفه قبل العام 2011.
والتنويه للتبادلات الحاصلة في واقع نظام الأسد، ليس من باب تفسير ما تفرزه الحرب من متغيّرات على أيّ نظام حاكم، فهذا أمر مفهوم وموضوعي، يحصل لكل نظام في أي بلد، لكن ما حصل لنظام الأسد، يتجاوز ما سبق إلى دخوله، بل غرقه، في الفوضى، وهي الحالة التي يتشارك فيها مع الحالة القائمة في الشمال الشرقي المحكوم بالإدارة الذاتية من جهة، وفي الشمال الغربي حيث الحكومتان المؤقتة والإنقاذ من جهة ثانية.
أول تعبيرات الفوضى المشتركة، تكمن في التباسات السياسة. ففي الحالات الثلاث لسلطات الأمر الواقع، تغيب السياسة بمعناها الواقعي والعملي في أنها علم وفن إدارة المجتمعات، وما هو موجود منها مجرد شعارات مركّبة على بنى عصابية وإدارية هشة، تستند إلى أيديولوجيات تجاوزها الزمن، وأثبتت فشلها من قومية بعثية لنظام الأسد إلى ماركسية ستالينية مسلّحة عند الإدارة الذاتية، إلى إسلاموية تراوح بين تطرّف "القاعدة" عند "هيئة تحرير الشام"، وما تبقى من جهادية الفصائل الاسلامية عند "الجيش الوطني"، وكلها عاجزة عن إدارة رشيدة في مناطقها، وغير راغبة في الذهاب نحو حل للقضية السورية، ليس لأنها خارج صف القوى الفاعلة فقط، بل لأنها لا تعمل ولا تخطط لتكون كذلك في المستقبل، ولأنها فوق ما سبق قوى محكومة بالتبعية المفرطة لأطراف إقليمية ودولية، وهي في أحسن الأحوال تدير الوقت بالخلافات والصراعات البينية، وتستعيد تفاصيل لا معنى لها من صراعات قومية وطائفية مع أطراف في الجوار وخاصة مع تركيا وإيران.
ثاني تعبيرات فوضى سلطات الأمر الواقع، تتمثّل في سياسة الأمن والعسكرة، التي تتبناها، وتعتمدها في أمرين، أولهما مواجهة أي تهديدات داخلية أو خارجية لوجودها، بما في ذلك تصفية خصومها من أفراد وجماعات بالقتل أو الاعتقال، والثاني ترتيب علاقاتها الداخلية والخارجية، حيث كل السياسات والعلاقات تنطلق من المقتضيات الأمنية العسكرية، وبالتالي فإنّ رجال الأمن وهياكلهم، والعسكريين ووحداتهم، هم أصحاب المكانة الأرفع في السلطة، المعتمد عليهم في المقام الأول لحماية المسؤولين وكيانهم القائم، وفي التجارب الثلاث ولو بدرجات مختلفة بعض الشيء، توجد قوة أمنية عسكرية عميقة، لا تظهر في المشهد العام للسلطة، تتمتع بصلاحيات واسعة، تكون مسؤولة عن أوضاع المجتمع الأمني العسكري في كل واحدة من سلطات الأمر الواقع، وترتبط مباشرةً مع رأس السلطة، كما في حال بشار الأسد والجولاني أو مجموعة على شكل قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD).
تتقارب ممارسات سلطات الأمر الواقع في سيطرتها على الموارد العامة من نفط وغاز وفوسفات وتسخيرها لمصالحها
ثالث تعبيرات فوضى سلطات الأمر الواقع، هو السيطرة على الموارد العامة في المنطقة، وتعميم سياسة النهب لصالح رأس السلطة وبطانته النافذة، والتركيز الدائم على استخدامهما بما يخدم السلطة، وليس على أساس خدمة المجتمع والدولة، وتتقارب ممارسات السلطات في المناطق الثلاث في سيطرتها على الموارد العامة من نفط وغاز وفوسفات وتسخيرها لمصالحها مباشرة وفي منح امتيازات استثمارية لحلفائها من روس وإيرانيين وغيرهم، كما جيّرت لصالحها عائدات المعابر والضرائب، وقامت بنهب ممتلكات السكان من مقيمين ومهجّرين بفعل الحرب عبر إصدار "قوانين" إدارة أملاك الغائبين على غرار ما فعلت إسرائيل بممتلكات الفلسطينيين، والأهم فيما مارسته سلطات الأمر الواقع وخاصة نظام الأسد تحويل البلاد إلى حاوية مخدرات وخاصة من الكبتاغون الذي صار مقرونًا بنظام الأسد، وإن لم يكن الوحيد الذي يشتغل به من سلطات الأمر الواقع، بل الأهم.
وسط الفوضى التي تشيعها وتغرق فيها سلطات الأمر الواقع في سوريا، وما تتابعه من سلوكيات وإجراءات، تولد صعوبات وتتصاعد إمكانيات قنابل موقوتة، وتتوالى الأسئلة عن مستقبل تلك السلطات وأثرها على السوريين والعالم من حولهم، والتي يمكن اختصار خلاصاتها في تأكيد الحاجة إلى فهم أعمق للأخطار الحالية والمستقبلية، التي تتولّد عن فوضى سلطات الأمر الواقع، والتي يبدأ علاجها من الشروع في حل للقضية السورية الذي قامت في غيابه تلك السلطات، والمستفيدة من عدم الذهاب إليه.
(خاص "عروبة 22")