أولًا، فشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق أهدافه المعلنة، والمخفية، بما فيها فشله في تنفيذ التطهير العرقي لقطاع غزّة، وفشله في اقتلاع المقاومة، وفشله في بسط سيطرة احتلاله، وفشله في إستعادة الأسرى الإسرائيليين.
ثانيًا، إنّ إسرائيل لا تستطيع الاستمرار في هذا العدوان، والعمليات العسكرية الجارية إلى ما لا نهاية بحكم عدم قدرتها على التعايش مع حرب طويلة، أو احتمال خسائر بشرية، أو خسائر اقتصادية بالحجم الذي تتعرّض له.
ثالثًا، إنّ إسرائيل والولايات المتحدة خسرت أخلاقيًا ومعنويًا هذه الحرب على الصعيد الشعبي، حتى داخل الولايات المتحدة نفسها.
رابعًا، إنّ الإستراتيجية الإسرائيلية التي سادت طوال العقد الماضي والقائمة على تصفية القضية الفلسطينية عبر التطبيع مع المحيط العربي، انهارت، وعادت القضية الفلسطينية لتتبوأ صدارة المشهد العالمي، باعتبارها قضية التحرّر الانسانية الأولى في عصرنا.
خسرت إسرائيل المعركة القضائية إعلاميًا بغض النظر عن قرارات القضاة
وتُوّج هذا المشهد بقرار تشيلي والمكسيك تقديم شكوى إلى محكمة الجنايات الدولية لفتح تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، وبافتتاح جلسات محكمة العدل الدولية بمبادرة من جنوب أفريقيا، لمحاكمة إسرائيل على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
وحسب ما كتبه مبعوث صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية لمتابعة وقائع المحكمة، خسرت إسرائيل المعركة القضائية إعلاميًا، بغض النظر عن قرارات القضاة.
وفي الواقع، حقق جرّ إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية هدفين، قبل أن يبدأ القضاة مداولاتهم.
الأول، أنّ انعقاد المحكمة، بحد ذاته، وإضطرار إسرائيل للمشاركة فيها، وتقديم دفاعاتها أمامها ردًا على وثيقة الاتهام المُحكمة، التي أحسنت جنوب أفريقيا صياغتها، مثّل ردعًا فعالًا لإسرائيل أجبرها على التراجع، ولو لفظيًا في الوقت الحالي، عن بعض أهدافها، كإعلانها عدم نيّتها تنفيذ التطهير العرقي، وإستعدادها للسماح لسكان شمال غزّة بالعودة إلى بيوتهم، وإعلان عدم نيّتها إعادة الاحتلال والاستيطان لقطاع غزّة.
والثاني، أنّ هذه هي المرة الأولى التي تفقد فيها إسرائيل الحصانة التي تمتّعت بها منذ إنشائها قبل 75 عامًا بدعم من الحكومات الغربية، وجعلتها تتصرّف باعتبارها فوق المساءلة، وفوق القانون الدولي. إذ أُجبرت أن تواجه الإتهام والمساءلة والمحاسبة على مرأى ومسمع العالم بأسره.
إدعاء إسرائيل عدم صلاحية تقديم جنوب أفريقيا الادعاء في محكمة العدل الدولية، لعدم وجود نزاع بينها وبين إسرائيل، تفنّده صيغة وثيقة "الإبادة الجماعية" التي تفترض، بل وتجبر كل دولة موقّعة على المعاهدة الخاصة بالأمر على التصدي لأي حالة من "الإبادة الجماعية". كما تفنّده ما قامت به جنوب أفريقيا من مراسلات مع إسرائيل لمطالبتها بالرد على الاتهام الموجّه لها.
أليس من حق الفلسطينيين الدفاع عن النفس ضد الاحتلال وأن يدافعوا عن حقهم في العودة إلى ديارهم؟
ووقع الوفد الإسرائيلي في فخ نصبه لنفسه عندما ادعى بأنّ تصريحات الوزراء الإسرائيليين الداعية إلى إبادة سكان غزّة، أو إلقاء قنبلة نووية عليهم، أو وصف سموتريتش جميع سكان قطاع غزّة بمن فيهم مليون طفل بأنهم نازيون، لا تمثّل رسميًا الحكومة الإسرائيلية ومؤسسة مجلس الحرب التي تدير العدوان، علمًا أنّ أسوأ التصريحات صدرت عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو نفسه، ومنها دعوته لطرد كل سكان قطاع غزّة، واستخدامه تعابير تلمودية تدعو إلى الإبادة الشاملة للفلسطينيين. ويصبح الادعاء الإسرائيلي عديم القيمة، بالنظر إلى أنّ السياسة العامة للحكومة الإسرائيلية لا يقرّرها مجلس الحرب، بل الحكومة بكاملها، والتي تضم أصحاب التصريحات الهمجية، التي تؤكد نيّة تنفيذ الإبادة الجماعية، بمن فيهم بن غفير وسموتريتش ووزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو.
وكم كانت جنوب أفريقيا محقة عندما صاغت الإطار العام للشكوى ضد إسرائيل شاملًا جريمة التطهير العرقي الجارية منذ عام 1948، وجريمة الأبارتهايد التي تواصل إسرائيل ارتكابها.
ولعلّ أسخف الحجج التي استعملها الوفد الإسرائيلي التركيز على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، وذلك ما واصلت تكراره حكومات غربية عديدة، مع اضطرارهم للإقرار بأنّ الدفاع عن النفس لا يُعطي الحق بارتكاب جرائم الحرب، وخرق القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي.
لكن السؤال هنا: أليس من حق الفلسطينيين أيضًا الدفاع عن النفس ضد الاحتلال الذي يضطهدهم؟ أليس من حق سكان غزّة، و70% منهم مهجّرون من وطنهم منذ النكبة عام 1948، أن يدافعوا عن حقهم في العودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها، حسب قرار 194 للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي كان تنفيذه شرطًا من الأمم المتحدة للاعتراف بإسرائيل.
صوَر الدمار والقتل والاجرام الذي ارتكبته إسرائيل لا تحتاج إثباتًا وهي تؤكد تنفيذ الإبادة الجماعية
تقول إسرائيل إنّ المقاومين الفلسطينيين اخترقوا حدودها في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وذلك يثير السؤال، هل حدّدت إسرائيل حدودها؟ بالطبع لا فذلك أمر محرّم التطرّق له. ثم ألم يكن الاعتراف الدولي بإسرائيل على أساس قرار التقسيم الصادر عام 1947، والذي أعطى للدولة الفلسطينية 44% من مساحة فلسطين التاريخية. إذن ألا يحق للفلسطينيين الذين طُردوا من تلك المناطق أن يدافعوا عن حقهم بالعودة إليها؟.
ليست محكمة العدل الدولية بحاجة لإثباتات أو محاججات قانونية، فصوَر الدمار والقتل والاجرام الذي ارتكبته إسرائيل لا تحتاج إثباتًا، وهي تؤكد تنفيذ الإبادة الجماعية، وادعاءات إسرائيل بعدم دقة أعداد الضحايا تفنّدها قوائم الشهداء التي نشرتها وزارة الصحة، مع أرقام هوياتهم وتواريخ ميلادهم.
بعد تطهير عرقي دام 75 عامًا واحتلال إسرائيلي أصبح الأطول في التاريخ الحديث، ونظام الأبارتهايد الأسوأ في تاريخ البشرية، وحصار إجرامي بشع على قطاع غزّة استمر 17 عامًا، وترافق مع شن 5 حروب على سكانه، تواجه إسرائيل، للمرة الأولى في تاريخها، حقيقة كونها الكيان المارق الأكثر خرقًا للقانون الدولي، وهذه هي البداية لمسار العدالة الذي لا يمكن إيقافه.
(خاص "عروبة 22")