بصمات

خطورة الجهل المركّب في العالم العربي

تناول بعض الفلاسفة والمفكّرين القدامى والمعاصرين قضية الجهل بصفتها عائقًا ذاتيًا وموضوعيًا يمنع الإنسان من إدراك الحقائق. فتحدّث أفلاطون - على سبيل الذكر - عن "الجهل المزدوج" الذي ينتهي بأصحابه إلى امتلاك معرفة موهومة. كما تحدّث توماس دي كونينك Thomas De Koninck عمّا اصطلح على تسميته بـ"الجهل الجديد" الذي يجمع بين الجهل المزدوج وأشكال مستحدثة عمّقت ذلك الجهل وعمّمته.

خطورة الجهل المركّب في العالم العربي

ولئن يستوعب المفهومان المتعلّقان بالجهل المزدوج والجهل الجديد دلالات كثيرة تنسجم مع الفكرة الأساسية التي يطرحها هذا المقال، فإنّه توجد بعض الأوجه التي تظلّ منفلتة عن دائرة المفهومين السابقين. لذا نخيّر استخدام مصطلح "الجهل المركّب" باعتباره يؤشّر أساسًا على تداخل عوامل متعدّدة في تشكّله، منها ما هو بنيوي عميق متّصل بطبيعة الثقافة السائدة التي تكلّست، وما يتقاطع وظيفيًا مع بقية العوامل المادية سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

لا يشمل الجهل المركّب المتعلّمين تعليمًا منخفضًا فقط، وإنّما قد يستوعب فئات اجتماعية حائزة على شهادات عليا في مجالات تخصّصها. فقد تحوّل ذلك التخصّص أحيانًا إلى عائق يحول دون إلمام متكامل بنوعية التحدّيات التي تواجهها البشرية مثلما أشار إلى ذلك إدغار موران. كما يتجلّى الجهل المركّب في شكل تعالم يحيط علمًا بكلّ شيء مثلما تعكسه تفاعلات مختلف روّاد شبكات التواصل الاجتماعي، وما تبثّه جلّ البرامج الإعلامية التي تعتمد أساسًا على ما يعرف بظاهرة الـ"كرونيكور" (chroniqueur) الذي يتحدّث بإطلاق في جميع المجالات دون تقديم إضافة جادّة لمتابعيه.

اتّساع الخور الذي ينخر الوعي العربي بشكل جعله في خدمة القوى الدولية الحريصة على تأبيد الغيبوبة العربية المزمنة

يتجلّى الجهل المركّب في أكثر من مستوى سواء على صعيد الخطاب والفكر أو على صعيد الممارسة والواقع. فعلى صعيد الخطاب العربي يمكن ربط الازدواج الذي يسم الخطاب السياسي بعامل الجهل المركّب. إذ بقدر ما يؤشّر تذبذب المواقف السياسية وعدم انسجامها مع القضايا المتّصلة بحاضر العالم العربي ومستقبله على غياب استراتيجيا خطابية محدّدة، فإنّه يكشف عن مفارقة بين الواجب والحاصل ناجمة عن خلل بنيوي عميق في تقييم الأوضاع ووضع البدائل الممكنة لتغييرها نحو الأفضل. فهذه الحالة: حالة الخلل أو القصور ليست حالة طارئة أو عابرة، وإنّما هي التعبير الأوضح عن عجز البنى العميقة المنتجة لذلك الخطاب عن تحديد موقفها الحقيقي من مختلف القضايا المطروحة دون مخاتلة أو لف ودوران والدفاع عنها إذا كانت مقتنعة فعلًا بوجهة نظرها في قضية ما مثل الموقف من المقاومة الفلسطينية بغزّة عقب عملية طوفان الأقصى.

نشير لمزيد التوضيح أكثر إلى أنّ التضارب المسجّل في الخطاب السياسي العربي، من دعم ظاهر للمقاومة الفلسطينية، ومن ترديد لشعارات الوحدة العربية والمصير المشترك والتضامن العربي مع غياب آليات عمل حقيقي لتكريس تلك الشعارات ولو في حدودها الدنيا مثل العجز عن إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية لأهل غزّة المحاصرين، لا يمكن تفسيره في ضوء مفارقة الظاهر والباطن فقط، وإنّما كذلك بفعل تشوّه لحق المفاهيم التي يرتكز عليها ذلك الخطاب السياسي المخاتل.

قد يفسّر أصحابه مواقفهم على أساس مفاهيم الوطنية والواقعية السياسية والبراغماتية بالقول إنّ المصلحة الوطنية العليا تفرض ضبط النفس وعدم الدخول في مواجهة غير متكافئة مع إسرائيل، بينما يقتضي مفهوم الوطنية عدم إغفال أهمّية العمق الاستراتيجي لحماية الوطن ومناعته. فمن مؤشّرات عدم حسن قراءة تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الاقتناع بأنّ إسرائيل تعمل للمصلحة العربية في محاربة "الظلامية" و"الرجعية" سعيًا إلى بناء شرق أوسط جديد يسوده السلام والتعاون ضمن الأبوّة الإبراهيمية المشتركة. هذا الموقف يُعدّ شكلًا من أشكال الجهل المركّب الذي يُعيد إنتاج طرق التفكير والتدبير نفسها التي أوصلت العالم العربي إلى حالة الذلّ والهوان.

كشف الواقع العربي الراهن اتّساع الخور الذي ينخر الوعي العربي بشكل جعله في خدمة القوى الدولية الحريصة على تأبيد الغيبوبة العربية المزمنة. ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى معطيين خطيرين: يتعلّق المعطى الأوّل بنوعية السياسات الثقافية المعتمدة، في حين يهمّ المعطى الثاني مفهوم التنمية السائد عربيًا.

أفضى التصوّر الاختزالي للتنمية الذي يغفل أولوية التطوّر الذاتي إلى خلق نموّ دون تنمية

نقصد بالسياسات الثقافية في هذا السياق أساسًا الرؤية والخيارات المعتمدة في تدبير الشأن الثقافي عمومًا والتربوي خصوصًا. ففي ما يخصّ الشأن الثقافي اختزلت الثقافة في التراث المادي أو الفلكور بطريقة استعراضية دعائية احتفالية غالبًا. بينما تكشف مختلف محاولات إصلاح المنظومة التعليمية ببلدان المغرب العربي تحديدًا عن حالة التخبّط وغياب الرؤية التربوية الدقيقة في التخطيط والمأسسة واختيار المشاريع المنسجمة مع خصوصيات واقع تلك البلدان. فهي في جملتها لا تعدو أن تكون عملية استنساخ بائس للنظم التربوية الفرنسية تحت إشراف خبراء منتمين للدائرة الثقافية الفرنكفونية.

لا تنفصل قضية التنمية عن معضلة الجهل المركّب. فهي نتيجة من نتائجها المضمرة. إذ أفضى التصوّر الاختزالي للتنمية الذي يغفل أولوية التطوّر الذاتي، ويركّز على محاكاة المنوال الاقتصادي الغربي، إلى خلق نموّ دون تنمية في أحسن الأحوال. يحدث هذا في وقت تجدّدت فيه مقاربات التنمية وتطوّرت من خلال ربطها بالقيم وبالرأسمال غير المادي وبالذكاء وبسياسات العدالة والاعتراف والإنصاف والاقتصاد التضامني.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن