بصمات

"المشترك الكوني" بين جنوب أفريقيا وفلسطين

لقد عاشت جنوب أفريقيا تجربة الفصل العنصري لعقود، ومثّل نيلسون مانديلا أيقونة العدالة العرقية مما جعله مصدر إلهام لكل الشعوب المضطهدة. تجربة جنوب أفريقيا، تجربة انتقلت من الميز العنصري إلى تحقيق التعايش السلمي، بالتالي هناك شعور بوحدة التجربة النضالية. وما قامت به مؤخرًا جنوب أفريقيا بخصوص التفاعل القانوني مع الحرب في غزّة، خطوة لم تأتِ من عدم، بل يمكن القول إنّ لها تاريخًا نضاليًا مشتركًا يعود للعقود الماضية، وخاصّة في عهدَيّ نيلسون مانديلا وياسر عرفات، إذ لا يزال حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم حليفًا للحق الفلسطيني، فهل ترافع جنوب أفريقيا لصالح الفلسطينيين ترافع لأجل القيم الانسانية أم أنّه يرسم أجندات سياسية أكثر منها حقوقية؟.

من بين مؤشرات المشترك الكوني بين الفلسطينيين وجنوب أفريقيا، نجد تجربة الفصل العنصري، إذ وِفق مقارنة بين ما عاشه السود في جنوب أفريقيا خلال نظام الفصل العنصري والاستيطان الإسرائيلي لأرض الشعب الفلسطيني، فإنّ القضية تتعلّق بتعرّض الأشخاص للاضطهاد والإبادة والتهجير من أراضيهم، مما يجعل جنوب أفريقيا الطرف الأمثل لرفع دعوى الفصل العنصري ضد إسرائيل، الأمر الذي قد يعكس عدّة أبعاد:

البُعد الذاتي، الذي يمكن تلخيصه بالقول إنّ جنوب أفريقيا بقيت وفيةً لتاريخها النضالي، وهي محاولة لإعادة أمجاد الصوت النضالي الذي دشّنه وفرضه على العالم نيلسون مانديلا، أي خلْق ثقل ديبلوماسي أخلاقي في مقابل التواطؤ الغربي والعجز العربي. فالغاية ذاتية بأبعاد كونية لأنّها تمثّل خطوة لها صدى تحفيزي على الدول التي لا صوت لها.

المطلب النضالي في نسخته الفلسطينية ليس مطلبًا قوميًا أو عرقيًا أو دينيًا أو جغرافيًا بل هو مطلب إنساني كوني

البُعد القومي، لأنّ تدويل القضية الفلسطينية خارج المشترك العربي يمنحها أبعادًا كونيةً، ويخفّف بالمقابل الثقل الفلسطيني على الكاهل العربي، فميزة جنوب أفريقيا هي اللا انتماء العرقي أو الديني أو القومي للقضية الفلسطينية الذي يزكّي مصداقية هذه القضية بما هي قضية تخص القيم الإنسانية، كما يعمل على تنويع الأصوات الداعمة للحق الفلسطيني تفاديًا لما خلقه الصوت العربي من اعتياد يعرف مداه ومنطلقاته وكذا حدوده، إذ لم يعد يملك تأثيرًا تحت مخلفات الضغط الاقتصادي والسياسي للقوى العالمية التي تسيّج التحرّك العربي.

- البُعد الداخلي الإسرائيلي، الذي يعيش على وقع توتر داخلي بين التيارين العلماني والمحافظ، إذ الدعوى القضائية لجنوب أفريقيا تسلّط الضوء على النهج الديني للتوجه المحافظ "دولة يهودا"، وهو جوهر لا يعكس توجّهًا إنسانيًا بقيم كونية كما تدعي إسرائيل، بل يُمثّل جماعة عنصرية تمارس العنف وتحرّض عليه انطلاقًا من توجهات دينية متطرفة وعنصرية، هذه التوجهات التي يربطها التيار العلماني داخل إسرائيل برؤية قاتمة للمستقبل الاقتصادي الإسرائيلي.

ــ البُعد العالمي، قد لا يكون الترافع خاليًا من التوجّهات السياسية أو الاقتصادية، ولاحظنا تغيير التوجّه الجنوب الأفريقي من إدانة الطرفين عقب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى توجيه الاتهام لإسرائيل وحدها ورفع دعوى قضائية ضدها، وعلمنا أنّ حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي رفضت سابقًا الانصياع لقرارات المحكمة الجنائية الدولية، بشأن اعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير، كما احتفظت جنوب أفريقيا بعلاقات قويّة مع روسيا والرئيس فلاديمير بوتين حتى بعد غزو أوكرانيا، رغم الاتهام الذي وجّهته له المحكمة الجنائية الدولية. قد نزعم أنّ هذه الحيثيات تعكس محاولة، لخلق ثقل سياسي يُفرمل التوجه الأمريكي والأوروبي في المنطقة العربية.

لكن بالمجمل، يمكننا القول إنّ موقف جنوب أفريقيا باتهام إسرائيل فتح الإمكان لسماع النضال السلمي عبر الآليات القانونية في إطار استرجاع السمو القيمي الإنساني بعد نكبته التي عبّرت عنها بعض الخرجات الحكومية والثقافية الغربية، مذكرًا أنّ المطلب النضالي في نسخته الفلسطينية ليس مطلبًا قوميًا أو عرقيًا أو دينيًا أو حتى جغرافيًا، بل هو مطلب إنساني كوني.

صدى المحاكمة بغض النطر عن فاعليتها، سيساهم في رفع منسوب التوجه الإنساني بالتعاطي مع القضية الفلسطينية

وحتى إن كانت جنوب أفريقيا تحاول أن تترجم فكرة النضال بأجندات داخلية أو خارجية، فإنّ صدى هذه الدعوى سيكون إيجابيًا فيما يخصّ تسليط الضوء عالميًا على السياق العام لفكرة الاستيطان ثم الاحتلال ثم الخناق الذي ولّده تواصل الحصار على غزّة.

إنّنا نزعم أنّ صدى المحاكمة بغض النطر عن فاعليتها، سيساهم في رفع منسوب التوجه الإنساني بخصوص التعاطي مع القضية الفلسطينية، فالتعاطي القانوني سينضاف لتعاظم الدعم الشعبي العالمي الداعم لإيقاف الحرب على غزّة، معزّزًا بالمقابل الفجوة التي تتسع بشكل لافت بين تنامي المظاهرات في الشارع الغربي وتوجهات الحكومات الغربية الماضية في دعم استمرار الحرب على غزّة. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن