بصمات

تاريخ موجز للحداثة العربية (4/3)

إذا كانت الحداثة مسارًا طويلًا استغرق قرونًا عديدة، فإنه مسار تراكمي، لم يتخذ شكل قطيعة بين الماضي والمستقبل في لحظة محددة، خصوصًا أنّ الدراسات الأحدث ترصد الأصول الوسيطة للحداثة.

تاريخ موجز للحداثة العربية (4/3)

صحيح أنّ بعض النظريات العلمية قد قطعت مع علوم العصر الوسيط، وأنّ نظرية كوبرنيكوس قد أنهت مركزية الأرض، وأنّ قوانين الجاذبية والنسبية قد غيّرت فهمنا للفيزياء، إلا أنّ الفلسفات المعاصرة لا تستطيع أن تنكر أصولها اليونانية، وأنّ الأخلاق لا يمكن أن تنكر الأخلاق الدينية برمتها، ومن الجهة المقابلة فإنّ غير الأوروبيين، وخصوصًا المسلمون (الدولة العثمانية) والعرب الذين كانوا أسبق في التعرّف والاحتكاك بالحداثة الأوروبية، لم يؤدِّ هذان التعرف والاحتكاك إلى قطيعة بين الماضي والحاضر أو بين الماضي والمستقبل. وكما أنّ حملة بونابرت لم تؤدِّ إلى صدمة حضارية كما في بعض الأدبيات.

في نصوص كل من الطهطاوي وخير الدين، نجد تلك النزعة إلى تسويغ الأخذ عن أوروبا من منطلقات دينية. في نصوص الطهطاوي المتأخرة نجد الجهد الذي بذله لترجمة قيم الحرية والمساواة والقوانين السياسية إلى لغة إسلامية. وفي مقاربة مفاهيم الحداثة إلى المفاهيم الإسلامية. أما خير الدين ففي مقدمة أقوم المسالك في معرفة الممالك، يعرض آراء الفقهاء الذين يسوغون الاستفادة من علوم غير المسلمين إذا لم تتعارض مع مبادئ الشريعة، اعتمادًا بوجه خاص على الفقه المالكي المقاصدي.

كان الطهطاوي رجل فكر وتربية، ومن هنا رأى بأنّ استيعاب القيم الحديثة يتمّ عبر التعليم والتربية، أما في الجانب السياسي فإنه رأى بأنّ إناطة الحكم بشخص العاهل هو أسلم لجهة التنفيذ من إيكاله إلى أشخاص عدة. وعلى المنوال نفسه فإنّ خير الدين رأى بأنّ النظام الدستوري ما زال مبكرًا الأخذ به.

إنّ المصلحين المبكرين سليم الثالث في استامبول ومحمد علي باشا في القاهرة، اعتقدا بأنّ ما يحتاجانه هو الأخذ بأسباب النظام العسكري الأوروبي، وأدركا بأنّ ذلك يحتاج إلى إصلاحات مالية وإلى أحداث نظام تربوي يأخذ بالاعتبار علومًا مرتبطة بالعسكرية. إلا أنّ الحقبة الزمنية ذاتها شهدت تجربة أخرى، ففي بيروت وجبل لبنان المجاور حيث لم يكن ثمة دولة تسعى إلى اكتساب القوة العسكرية، فإنّ الأخذ من أوروبا اقتصر على الناحية الأدبية والفكرية وكان أبرز ممثليها هو بطرس البستاني المترجم والمربي والكاتب الموسوعي.

لبنان شهد خلال القرن التاسع عشر تأثرًا واضحًا بأفكار التنوير الفرنسي التي عبّر عنها بشكل خاص بطرس البستاني

إلا أنّ بيروت مثل الإسكندرية كانت تشهد تحديثًا غير مرتبط بمقتضيات السياسة، وبحكم موقعهما كمرافئ عرفتا تحديثًا اقتصاديًا واجتماعيًا وعمرانيًا.

من هنا، فإنّ بدايات التحديث في عدد من البلدان العربية، وفي الدولة العثمانية التي كانت لا تزال تحكم عددًا من المناطق العربية، ترتبط بعدّة عوامل أبرزها العامل السياسي واحتياجات الدولة إلى القوة العسكرية، ونظام جديد وفق التنظيم الأوروبي الذي يؤدي إلى إصلاحات في التعليم وإدارة المالية، ويتحوّل إلى مشروع تحت اسم النهضة وهذا هو المصطلح الذي استخدم في المشرق العربي، في الفترة ذاتها التي شهدت فيها الدولة العثمانية فترة التنظيمات الخيرية.

والواقع أنّ لكل المصطلحين دلالاته، فالتنظيمات العثمانية كانت تديرها الإدارة التي تولاها شخصيات تحديثية أمثال رشيد باشا وعالي باشا ومدحت باشا. وقد شملت الجيش والقضاء والتعليم وإدخال نظام البلديات. وقد كان لهذه التنظيمات أثرها بدرجات متفاوتة في لبنان وسوريا والعراق، وكذلك في مصر من الخديوي إسماعيل وفي تونس.

أما مصطلح نهضة فارتبط بالأفكار والآداب واللغة. وهذا ما كان عليه الملمح الرئيس في لبنان الذي شهد خلال القرن التاسع عشر تأثرًا واضحًا بأفكار التنوير الفرنسي، التي عبّر عنها بشكل خاص بطرس البستاني، من خلال سعيه إلى انشاء موسوعة وبث فكرة الوطنية كرابطة بديلة عن الانتماء الطائفي وكرد فعل على الأحداث الطائفية في جبل لبنان عام 1860.

العوامل السياسية والثقافية والاقتصادية ستؤدي إلى بروز مظهر للحداثة يتمثّل بالعامل الاجتماعي

وعلى هذا النحو، فإذا كان مطلب القوة وإصلاح الإدارة هو أول العوامل الدافعة إلى التحديث، فإنّ العامل الثاني هو المدخل الفكري والثقافي عبر التأثّر بالأفكار الأوروبية ثم الآداب الفرنسية والإنكليزية ومن ثم التيارات الأيديولوجية من قومية واشتراكية.

أما العامل الثالث فهو العامل الاقتصادي والذي يعبّر عنه نمو المرافئ وخصوصًا الإسكندرية وبيروت، إذ إنّ حركة التجارة النشطة بين أوروبا وجنوب المتوسط تشير إلى ارتباط متزايد للاقتصاديات في البلدان العربية بالاقتصاد الأوروبي، والذي أدى إلى تدفق البضائع الأوروبية، الذي أدى إلى تدهور الحرف التقليدية كما أدى إلى رهن اقتصاد مصر بإنتاج القطن، ورهن اقتصاد جبل لبنان بالحرير.

هذه العوامل الثلاثة (السياسي – الثقافي - الاقتصادي) ستؤدي إلى بروز مظهر للحداثة يتمثّل بالعامل الاجتماعي، أي اكتساب عادات جديدة تشمل المأكل والمشرب، وافتتاح المقاهي وتأسيس المصارف، والمسارح وإنشاء المدارس وإصدار الصحف وتأسيس الجمعيات الأدبية. وهذه العادات والمؤسسات الجديدة والمستحدثة فرضت إنشاء حيّز خاص بها ينشأ بمحاذاة المدينة التقليدية ليتحوّل إلى حيّز حديث يجتذب المؤسسات والنشاطات المستحدثة إن كانت مالية (مصارف) أو تجارية (متاجر) أو تعليمية (مدارس) أو ترفيهية (مقاهي، مسارح) أو سلطوية (سرايا ودار بلدية).

العمران كعامل من عوامل التحديث كان يعبّر عن ثقافة جديدة وتخطيط هادف

أدى إنشاء مؤسسات حديثة إلى العامل الخامس، وهو العامل العمراني أي استلهام العمارة الأوروبية إن كانت عمارة سكنية أو مباني إدارية أو تعليمية أو تجارية أو غير ذلك.

ولكن العمران كعامل من عوامل التحديث كان يعبّر عن ثقافة جديدة وتخطيط هادف. فالعمران الحديث يتميّز بالاستقلالية والوظائفية. فكل مبنى هو وحدة عمرانية قائمة بذاتها غير محاذية لمبنى مجاور، كما أنّ الحيّز الحديث من المدينة يقوم على الانفتاح بحيث لا يكون للحارة بوابتها التي تُقفل ليلًا، كما أنه يتوخى الشوارع العريضة التي تتفرّع من ساحة عامة.

هذه العوامل الخمسة التي من خلالها يمكن قراءة مسارات الحداثة في البلدان العربية، وهي ليست بالضرورة متعاقبة، وفي أغلب الأمثلة تتداخل العوامل خصوصًا أنّ الحيّز العمراني الحديث في المدينة يستقطب العوامل المختلفة من ثقافية وإدارية واقتصادية وهو عنوان للتحوّلات الاجتماعية.


لقراءة الجزء الأول

لقراءة الجزء الثاني

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن