إلى متى ستبقى العلاقات الخليجية الإيرانية على مرجل لا يكاد يخبو لهيب نيرانه حتى يعاود التأجج من جديد؟ فما أن تنتهي مشكلة أو تكاد إلا وتقفز أخرى في المشهد.
هذا هو وضع دول مجلس التعاون مع الجارة إيران، التي استبشرنا خيرًا بالنبرة العاقلة التي تبنتها منذ أشهر قليلة مضت في تعاملها مع جوارها الإقليمي الماثل أساسًا في دول مجلس التعاون بعد أن وصلت تلك العلاقات إلى أدنى مستوياتاها. الطريف في الأمر، إذا كان في الأمر وجه للطرافة، أن إيران كانت ولا تزال بحسب مجريات الأمور الآن هي المبادر دائما إلى الإساءة والعدوان والتصعيد الخطابي وحتى العسكري، ولم نرَ يومًا دولة واحدة من دول مجلس التعاون تبادر إلى التصعيد والعدوان، لا نقول هذا من باب التحريض ولكنها حقيقة مرة لا بد من تثبيتها والاعتراف بها، ولا نقول إلا للتذكير بأن المشكلات مع إيران عديدة بل كثيرة، فيها السياسي وفيها الحدودي البحري مع أكثر من دولة خليجية، وفيها الطائفي الذي تعمل جهات داخلية في إيران على تأجيج نيران الفتنة فيه خدمة لتصور عدواني لا يمكن أن تنشأ من خلاله علاقات جوار سليمة بين إيران وجوارها الإقليمي، وفي هذا ما يجعلنا أمام وضع متأزم باستمرار ننبه إلى أن بقاءه على هذه الهيئة وغيرها لا يفيد أحدًا.
آخر هذه المشكلات التي بدأت تطل برأسها هي الخلاف حول حقل «الدرة» الذي يوصف بالإستراتيجي ليس لموقعه الذي جعله جامعة بأقدار الجغرافيا بين دولتي الكويت والمملكة العربية السعودية وقريبا من المياه الإقليمية الإيرانية، بل أيضا لغناه بكميات هائلة من الغاز تجعله فضلاً عن طاقته الإنتاجية الرهيبة مخزونًا استراتيجيًا مهمًا يضمن للدولتين عقودًا من الرفاه الطاقي إنتاجًا واستهلاكًا وترويجًا، إذ تشير المعلومات إلى أن احتياطيات هذا الحقل تبلغ 7 تريليونات قدم مكعب، وبانتاج متوقع يقدر بميليار قدم من الغاز و84000 قدم من الغاز المكثف في اليوم.
من خلال المشكلة التي تطل برأسها اليوم والتي يرجع تاريخها إلى عام 1960، عام اكتشاف الحقل إلى هذا اليوم لم يتم التوصل إلى حل، والعقدة تكمن في ترسيم الحدود البحرية، ولو أن الحدود قد رسِّمت مذّاك لما كنا في وارد حدوث خلاف حول الحقل. لكن الفرق بيّن بين السلوك السياسي الرزين لدولة
الكويت حيال حقل «الدرة» والسلوك الإيراني، فإيران اتخذت إجراءات وترتيبات حفر للبئر دون اعتبار للواقع الجغرافي الإشكالي لموقع البئر وتبعيته الجغرافية لكل من الكويت والسعودية وكأنها تفرض بذلك سياسة الأمر الواقع، أما دولة الكويت فقد احترمت الأعراف الدبلوماسية، وأبدت اعتراضها على هذا الإجراء بإصدار وزارة خارجيتها بيانًا قالت فيه «البلاد تجدد دعوتها للجانب الإيراني، لبدء المفاوضات، بشأن إنشاء الحدود البحرية...»، والفرق جلي بين باحث عن حل جذري لهذه الأزمة المفتعلة عبر التفاوض، ومتعامل مع الأزمة بمنطق الإغارة والغربة.
وفي ضوء بيان وزارة الخارجية هذا أصدر وزير النفط الكويتي سعد البراك بيانا قال فيه: «إلحاقًا ببیان وزارة الخارجية حول الموضوع ذاته نرفض جملة وتفصيلاً الادعاءات والإجراءات الإيرانية المزمع إقامتھا حول حقل الدرة»، مؤكدًا بالتوضيح بأن «حقل الدرة ھو ثروة طبیعیة كویتیة - سعودیة ولیس لأي طرف آخر أي حقوق فیه حتى حسم ترسیم الحدود البحریة». ولعل الفرق هنا مرة أخرى واضح بين النهجين في تعامل الدول فيما بينها، فالكويت توظف السياسة وسيلة لحل خلافاتها، فيما تعمد إيران كعادتها دائمًا إلى توظيف عضلاتها «البالستية والنووية» غير عابئة بما يمكن أن يترتب عن هذا السلوك من عواقب على منطقة الخليج العربي برمتها. هذا التهويش الإيراني يعيد إلى الأذهان الجدل الإيراني المستدام حول تسمية الخليج العربي. فإصرارها على استبدال تسمية الخليج الفارسي بتسمية الخليج العربي يتجاوز حدود النعرة العرقية ليكون تعبيرًا عن اعتقاد إيراني بأن التسمية وحدها كفيلة بأن تعطيها الحق في وضع اليد على كل ما في هذا الخليج مثلما فعلت سابقًا مع الجزر الإماراتية طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبوموسى!
مطلب دولة الكويت بعدم أحقية أي دولة بالتنقيب في هذا الحقل إلا بعد ظهور نتائج ترسيم الحدود فيه كثير من الرزانة والحكمة السياسية المشهود بهما لدولة الكويت، وينبغي على إيران أن تتجاوب مع هذا الطرح، وأن تدرك أن زمن البلطجة في العلاقات الدولية قد ولى وانقضى. وفي مقابل ذلك لا يجب أن تسمح الدول المتنازعة حول هذا الحقل للخلاف أن يتسع بينها ويأخذ أبعادًا تصعيدية يقضي بها على ما تحقق من تقارب في العلاقات الخليجية الإيرانية، وليس أفضل في هذا الإطار من حل ترسيم نهائي وبات للحدود الإقليمية لكل دولة، فترسيم الحدود للبلدان في المياه الإقليمية يعطي لكل ذي حق حقه، ويقبر إلى الأبد عهد وضع اليد بالقوة على حقوق الآخرين.
ما نرجوه، في ظل هذه الأزمة أن يتصف سلوك الساسة الإيرانيين بالحكمة، وأن تستجيب إيران لدعوة الحكومة الكويتية إلى ترسيم الحدود بين الدولتين، بل وكل الدول التي تتشارك حدودًا مبهمة، لكي لا يطول الخلاف حول حقل الغاز الإستراتيجي هذا أكثر من هذا الوقت، وألا تعيق هذه الأزمة الانفتاح الإيجابي في العلاقات بين دول مجلس التعاون وإيران.