الفرضية الأساسية هنا هي أن الوضع الداخلي في إسرائيل هو العنصر المفصلي في تغيير الواقع على الأرض في غزة والانتقال من الحرب المفتوحة إلى مرحلة أو مراحل أخرى، وهو العنصر الحاسم أيضا في تحديد مستقبل المسارات السياسية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو أيضا مصدر التحديات الكبرى التى ترد على الأمن القومي المصري والمصالح المصرية في ارتباطها بأوضاع غزة والضفة وكذلك فيما خص السلام بين مصر وإسرائيل.
ثمة توافق واسع إلى اليوم بشأن الهدف المعلن للحرب في غزة وهو إزاحة حماس من حكم القطاع وتدمير قدراتها العسكرية إلى الحد الذي لا تستطيع معه تكرار هجمات ٧ أكتوبر في المستقبل القريب والبعيد.
لن يتغير هذا الهدف مع تغير طبيعة العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع والانتقال إلى مرحلة أقل حدة من الحرب والمتوقع أن تبدأ في غضون الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة. المرجح، وفقا لتقديرات الخبراء الأمنيين في إسرائيل، أن تستغرق هذه المرحلة الثانية من الحرب من ٦ إلى ٩ أشهر.
المعضلة الأساسية التي تهدد هذا التوافق الواسع هي مسألة الرهائن الإسرائيليين والتي حتما، مع استمرار الحرب، ستدفع حكومة تل أبيب إلى التفاوض مع حماس من خلال الوسيط المصري والقطري وربما بتدخلات أمريكية متزايدة.
على الرغم من أن السياسة والمؤسسة العسكرية والأمنية في إسرائيل لا تميل اليوم إلى مناقشة الأفق السياسي والدبلوماسي للأوضاع المستقبلية في غزة والضفة، إلا أن الضغوط للدفع بهذا الاتجاه تتصاعد إن بفعل تحولات الموقف الأمريكي أو بسبب إدراك البعض داخل دوائر السياسة والأمن خطورة الاستمرار دون نهاية في حرب ذات كلفة اقتصادية مرتفعة وتحمل إسرائيل ثمنا دوليا باهظا وقد تنفلت إقليميا وفي مواقع مختلفة وتخرج عن السيطرة.
طبيعة الحكومة القائمة في إسرائيل ستحدد تفاصيل سياسة المرحلة القادمة تجاه غزة والأراضي الفلسطينية. الحكومة الحالية هي الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، غير أنها تمتلك في الكنيست أغلبية مريحة. مع ذلك، فإن هذه الحكومة قد تخسر ثلث مقاعدها الحالية في الكنيست وتخسر مقعد الحكم حال أجريت الانتخابات البرلمانية الآن. وبالنظر إلى الغضب الشعبي بسبب إخفاق الحكومة في منع هجمات ٧ أكتوبر وقبلها بسبب الصراع السياسي الداخلي حول الإصلاح القضائي (والذي أسقطت شقه الأهم المحكمة الدستورية قبل أيام قليلة)، فإن المرجح أن تشهد إسرائيل تظاهرات كبيرة في الفترة القادمة، ومعها سترتفع احتمالية إجراء انتخابات برلمانية مبكرة خلال ٦ إلى ٩ أشهر من الآن.
تحولات السياسة الأمريكية ستؤثر بقوة في مستقبل الحكم في إسرائيل. صارت الولايات المتحدة في عام الانتخابات ٢٠٢٤، والسباق الرئاسي سيكون، وفقا لحسابات اللحظة الراهنة، بين جو بايدن ودونالد ترامب. وإذا كان عام الانتخابات سيخصم من الاهتمام الأمريكي العام بالقضايا الخارجية، إلا أن أوكرانيا وإسرائيل أصبحتا في صلب الصراع السياسي الداخلي.
تتعرض إدارة بايدن لضغوط من الحزب الديمقراطي لتطوير موقفها باتجاه إنهاء الحرب في غزة والضغط من أجل فتح أفق للتسوية السياسية بين إسرائيل وفلسطين على أساس حل الدولتين. لم تعد الضغوط قادمة فقط من الجناح اليساري داخل الحزب، بل تتبلور ضغوط من قبل قيادات ديمقراطية مؤثرة في مجلس الشيوخ وفي مجلس النواب تدفع لمناقشة وضع شروط على الدعم العسكري والمالي المقدم لإسرائيل (مقترح بيرني ساندرز مؤخرا)، وتدفع أيضا لوضع مشروطية تربط بين الموافقة على الصفقة الثلاثية بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية (أي الموافقة على الشق الأمريكي من الصفقة، وبه اتفاق أمني شامل مع السعودية يصدر كقانون عن الكونجرس على غرار الاتفاق الأمني بين الولايات المتحدة واليابان) وبين خطة زمنية محددة لقيام الدولة الفلسطينية (هناك مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ يبدو أنها تقترب من ٢٠ عضوا سترفض الصفقة حال غياب خطة الدولة الفلسطينية).
تضغط إدارة بايدن لذلك ــ أيضا لأن الحلفاء الأوروبيين ومصر والأردن ودول الخليج يطالبونها بذلك ــ على حكومة نتنياهو لوقف الحرب دون الإعلان عن انتهائها، وللالتزام بالمقترحات الأمريكية بشأن اليوم التالي. غير أن حكومة نتنياهو ترفض مجاراة واشنطن في هذا الصدد.
تعمل الولايات المتحدة على احتواء خطر التمدد الإقليمي للحرب في غزة، وفي نفس الوقت احتواء التهديدات المتصاعدة ضد قواتها في الشرق الأوسط (العراق وسوريا) وضد مصالحها ومصالح الحلفاء الغربيين خاصة تلك المرتبطة بما يحدث في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. تقديرات المؤسسة العسكرية الأمريكية هي أن القدرات الأمريكية تتعرض لاستنزاف كبير في الشرق الأوسط بسبب الهجمات المتبادلة مع ميليشيات إيران في المنطقة وبسبب قيادة الولايات المتحدة لكافة أعمال الأمن الإقليمي لاحتواء تهديدات وكلاء إيران.
تقديرات المؤسسة العسكرية الأمريكية هي أن هذا الاستنزاف يرفع من التهديدات الواردة على المصالح الأمريكية في مناطق أخرى كما في المحيط الهادي حيث التنافس العسكري والاستراتيجي مع الصين، وحيث مسألة تايوان المؤرقة لواشنطن. في هذا السياق، ثمة إشارات إلى توترات في العلاقات الأمريكية ــ الصينية بسبب ما يحدث في البحر الأحمر حيث ترفض الصين الضغط الجاد على إيران ووكلائها لوقف تهديدات الملاحة الدولية، وتكتفي بتأمين عبور سفنها هي التي لا يتعرض لها أحد. ترفض الصين الضغط على إيران على الرغم من كونها الحليف الاستراتيجي الأهم لإيران التي سينهار اقتصادها دون دعم الصين. لذلك، تتواتر الأحاديث عن أن واشنطن سئمت اعتماد بكين عليها لتأمين خطوط التجارة والملاحة الدولية التي تعتمد عليها الصين لإدارة اقتصادها (وهو في أزمة حاليا) استيرادًا وتصديرًا، وعن أن واشنطن لن ينبغي أن تستمر في تحمل الفاتورة بمفردها. ما زالت التوترات الأمريكية ــ الصينية مكتومة، غير أنها مرشحة للخروج إلى العلن مع أي تصعيد شرق أوسطي قائم أو أي تصعيد قادم في المحيط الهادي إن بشأن تايوان أو قضايا أخرى.
وتغير احتمالية فوز ترامب في الانتخابات القادمة، نوفمبر ٢٠٢٤، من هذه المعادلات، بحيث تتراجع الضغوط الأمريكية على إسرائيل، وترتفع أسهم بقاء اليمين حاكما في تل أبيب، وتتراجع فرص إطلاق مفاوضات للتسوية السياسية على أساس حل الدولتين في مقابل تصاعد الضغط الأمريكي لاستئناف مفاوضات التطبيع بين إسرائيل والسعودية.
("الشروق") المصرية