وجهات نظر

رئيس لا يقرأ التاريخ!

بدواعي اليأس والإحباط وغياب الأمل في أيّ تغيير سلمي تبدت مقدمات الانفجار الكبير، الذي أفضى إلى إطاحة "حسني مبارك" من الحكم في 11 فبراير/شباط 2011.

رئيس لا يقرأ التاريخ!

في 8 إبريل/نيسان 2008 أطلّت على المشهد المصري المحتقن أجواء ثورة خبز جديدة، تضاهي ما حدث يومي 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977.

بخبرة التاريخ ودروسه، فإنّ اليأس يولد الانفجار ويقود إليه، وقد وصل مداه في ارتفاعات الأسعار وتدهور مستويات المعيشة واستبعاد أية مراجعات للسياسات الاقتصادية المتبعة تعويلًا على الحلول الأمنية وحدها.

لم يلتفت أحد عند مركز السلطة لحقيقة أنّ مصادرة دعوات الإضراب والاعتصام والتظاهر السلمي تأجيل للأزمة، لا حلًا لها، ولم يكن لديها ما تقوله غير نظريات المؤامرة.

ساهمت الدولة المذعورة بقدر كبير في نجاح إضراب 6 أبريل/نيسان.

هذه حقيقة لمن يريد أن يقرأ التاريخ.

استدعت سلطات الأمن عمداء الكليات ومديري المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية ورؤساء المصالح الحكومية وقيادات المصانع للتحذير من الإضراب والمشاركة فيه.

وضع الأمن في مواجهة مجتمعه كان خيارًا مدمّرًا جرى دفع تكاليفه في عواصف ثورة "يناير"

أثارت ذعرًا عامًا دفع قطاعات واسعة من المواطنين للامتناع عن الذهاب للعمل، باعتقاد أنه يوم للصدام والعنف، وأنّ الدولة متأهبة للخوض في دم المجتمع.

في مدينة المحلة دوت طلقات رصاص حيّ من قوات الأمن، سقط قتلى ومصابون، جرت حرائق وأعمال سلب ونهب على نطاق واسع.

أفضى استخدام القوة المفرطة إلى نجاح الإضراب، جرت اشتباكات، حطمت خلالها صورة كبيرة لـ"مبارك" في مشهد نقلته وكالات الأنباء.

كان ذلك المشهد رسالة لم تُقرأ على أي نحو صحيح، وأخذت الدولة المذعورة تنكل وتضرب وتعتقل وتصطنع الدعاوى القضائية، كأنها لا تريد أن تصدق أنّ مجتمعها يئس منها وأخذ يبادلها الكراهية ويمزّق صور رموزها.

ضربت الهستيريا الإعلامية منابر السلطة، حرّضت على قدر الحريات العامة المتاحة، وعلت دعوات: "اضرب.. اسحل.. اعتقل.. صادر".

كان التذمر الاجتماعي جوهر ما جرى في المحلة وما سوف يحدث تاليًا.

استهانت افتتاحيات الصحف الرسمية بتجليات الغضب الشعبي، كأنه لم تكن هناك رسائل سياسية كاشفة لعمق الأزمة في المجتمع.

جرت استعادة مصطلحات الرئيس السابق "أنور السادات" في وصف أحداث 1977 بأنها "انتفاضة حرامية"، وأنّ المشاركين فيها مجموعة من "البلطجية" ذوي الأغراض "المشبوهة" دون محاولة قراءة لحقيقة ما حدث، كأنه خداع نفس قبل الآخرين.

كان أسوأ خيار ممكن مطاردة أصحاب الرأي بتهم التحريض على الإضراب، وهو حق مشروع ودستوري، وتعقب المدوّنين على مواقع الإنترنت، والتضييق على البرامج السياسية في الفضائيات المصرية، والتهديد بإغلاق مكاتب فضائيات عربية.

كان وضع الأمن في مواجهة مجتمعه خيارًا مدمّرًا جرى دفع تكاليفه في عواصف ثورة "يناير".

في ذلك الوقت ارتفعت أصوات قيادات أمنية سابقة على شاشات الفضائيات تقول: "الأمن شايل الشيلة"، وترددت في بعض جنبات الحكم احتجاجات أمنية مكتومة تعبّر عن ضجرها من أن تدخل في صدام محتمل لصالح الفساد المستشري.

كانت تلك الأصوات المعلنة والمكتومة من علامات أزمة الشرعية عندما تستحكم، أو من مقدمات النهايات المؤكدة، فالدول تحميها مجتمعاتها وقواعد القبول العام بسلطتها.

خيّمت أشباح انتفاضة الخبز في يناير/كانون الثاني 1977 على مخيّلة أصحاب السلطة والقرار دون استخلاص الدروس والعبر، كأنّ التاريخ بلا مغزى وحوادثه مصادفات.

كما خيّمت احتمالات حملة اعتقالات واسعة تطال رموز العمل السياسي والوطني من جميع الاتجاهات على النحو الذي جرى في سبتمبر/أيلول 1981 قبل حادث المنصة الدموي، الذي أودى بحياة "السادات"، كسيناريو ثانٍ محتمل.

بخبرة "مبارك" تجنّب الوقوع في محظور الاعتقالات الواسعة، لكنه أخفق في توقع الضربة، التي داهمت نظامه وأطاحته من سلطة بقي فيها لثلاثين سنة متصلة.

لم يقرأ الغضب الظاهر في الشوارع والأسواق وعاند مع الحقائق وكانت النهايات محتمة.

لكل عصر قضية كبرى، أو إنجاز كبير يبلور صورته في التاريخ.

هكذا يُفترض.

كانت حرب السويس 1956 وسط تحديات دولية وإقليمية لا مثيل لخطورتها مدخل "جمال عبدالناصر" للتاريخ.

بصورة أو أخرى، فإنها كانت نقطة فاصلة في تاريخ الإقليم والعالم، تغيّرت معادلات قوة، سقطت امبراطوريات قديمة عن عروشها، وأخذت حركات التحرير في العالم الثالث مداها بإلهام السويس أنّ دولة من العالم الثالث مستقلة حديثًا استطاعت أن تتحدى الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية ومعهما إسرائيل، وأن تكسب الرهان على استقلال قرارها الوطني.

وكانت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 مدخل "السادات" للتاريخ بقدر استجابتها لطلب تحرير الأراضي المحتلة بقوة السلاح، بذلت تضحيات هائلة في ميادين القتال، رغم خذلان السلاح بالسياسة فإنه يحسب له تحمّل مسؤولية قرار الحرب.

لم يتسن لـ"مبارك" أن يجد مدخله للتاريخ، شرعية حكمه أخذت تتآكل ومشروعيته غابت فيما كانت حالته الصحية محل تساؤل وسؤال عمن يخلفه، أو إلى أين تذهب مصر؟!

كان ذلك وضعًا خطرًا على أمن البلد قبل أمن النظام وبابًا مفتوحًا على أوضاع انفجار لا سبيل إلى ردها.

بحسابات الأمن بدا الاستقرار هشًا والتغيير إجباريًا لتجنّب عواقب انفلات واسع، أو فوضى دموية، على ما تردد وقتها على لسان شخصيات عامة من مواقع فكرية وسياسية متباينة.

"مبارك" عن فرصته في دخول التاريخ بالتحوّل إلى الديمقراطية: "مش عاوز أدخل جغرافيا ولا تاريخ"

"هذا أوان التغيير الديمقراطي الواسع، وإلا فإنّ الكارثة واقعة لا محالة".

هكذا كتبتُ حرفيًا يوم 25 يناير/كانون الثاني 2004 على صفحات جريدة "العربي" تعليقًا على حوار مقتضب مع "مبارك" بعد أن غادر منصة اجتماع مع المثقفين في قصر "الاتحادية"، وأخذ يتجوّل في القاعة.

كان تلك من عاداته التي يفضلها ويميل إليها، إذا سمحت ظروفه.

باقتراح من المفكر الراحل الدكتور "محمد السيد سعيد"، ذهبنا إليه في طرف القاعة، بشجاعة واستقامة عرض عليه الفكرة، متحمسًا ومقتنعًا بما كنتُ قد كتبتُه عن فرصته في دخول التاريخ بالتحوّل إلى الديمقراطية.

أشاح "مبارك" بيده قائلًا: "مش عاوز أدخل جغرافيا ولا تاريخ".

وقد كان.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن