المفارقة هنا أنّ اتفاقية الإبادة الجماعية التي أُنشئت أساسًا بسبب ما تعرّض له اليهود من جريمة الهولوكوست على يد النازية الألمانية، هو ذاته الذي تحاكَم إسرائيل على أساسه بتهمة إرتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة.
وقد رفضت محكمة العدل العليا طلب إسرائيل حذف الدعوى والقضية بحجة عدم الاختصاص، أو عدم وجود نزاع بين إسرائيل وجنوب أفريقيا، وقررت أنّ الشروط متوفرة بموجب نظامها الأساسي لاستيفاء تدابير مؤقتة في انتظار قرارها النهائي لحماية الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا والتي رأت المحكمة أنها معقولة وأنّ لديها السلطة لاتخاذ تلك التدابير.
من المستحيل على إسرائيل أن تنفّذ قرارات المحكمة الستة دون وقف شامل وكامل ودائم لإطلاق النار
وأشارت المحكمة إلى الأفعال التي تحددها المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية على أنها:
1 - قتل أعضاء المجموعة المقصودة (الشعب الفلسطيني)
2 - التسبب في أذى جسدي أو عقلي خطر للمجموعة
3 - فرض ظروف معيشية على المجموعة تهدف إلى تدميرها الجسدي كليًا أو جزئيًا
4 - فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة
وأكدت المحكمة:
أولًا - على إسرائيل، وفقًا لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزّة، اتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع ارتكاب جميع الأعمال التي تدخل في نطاق المادة الثانية المذكورة أعلاه، وأنّ على إسرائيل أن تضمن عدم قيام قواتها العسكرية بارتكاب أي من الأفعال المذكورة أعلاه.
ثانيًا - أن تضمن دولة إسرائيل بأثر فوري عدم إرتكاب قواتها المسلّحة أيًا من الأفعال المذكورة.
ثالثًا - أن تتخذ دولة إسرائيل كل التدابير في حدود سلطتها لمنع ومعاقبة الحث العلني (التحريض) على إرتكاب الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزّة.
رابعًا - أن تتخذ إسرائيل تدابير فورية وفعّالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية التي هي حاجة عاجلة لعلاج أوضاع الحياة السلبية التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزّة.
خامسًا - أن تتخذ إسرائيل تدابير فعّالة لمنع تدمير الأدلة المتعلقة بادعاءات أفعال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.
سادسًا - أن تقدّم إسرائيل تقريرًا للمحكمة بكل التدابير التي اتخذتها لتنفيذ هذا الأمر خلال شهر من تاريخه.
وإذا تمعنا في مضمون قرار محكمة العدل الدولية ومستنداته، والذي أنصح المهتمين بقراءته كاملًا وعدم الاستناد إلى التعليقات العابرة، وبعضها جاهل، فإنّ قرار المحكمة يفتح الباب على إدانة إسرائيل بارتكاب كبرى الكبائر في العرف الإنساني المعاصر، وهي جريمة الإبادة الجماعية، ولأنّ خلاصته تؤدي إلى أنّ من المستحيل على إسرائيل أن تنفّذ قرارات المحكمة الستة دون وقف شامل وكامل ودائم لإطلاق النار. إذ كيف يتوقف جيش الاحتلال عن قتل المدنيين وعدم إيذائهم جسديًا وعقليًا من دون وقف إطلاق النار، وكيف يمكن أن يسمح للسكان بالعودة إلى منازلهم، وترميمها لتوفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية، وعلاج أوضاع الحياة السلبية لسكان قطاع غزّة، دون وقف اطلاق النار... إذًا، ورغم عدم نطق المحكمة بقرار وقف إطلاق النار، فإنّ تنفيذ كل قراراتها مشروط بوقف إطلاق النار خاصة أنّ إسرائيل ملزمة خلال شهر بتقديم تقرير عن كل ما قامت به لتنفيذ قرارات المحكمة.
تركيز المحكمة على توفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية، يُعتبر فرصةً واختبارًا لإرادة الدول العربية والإسلامية
الخطوة الطبيعية التالية لقرار المحكمة هو ما يمكن أن تقوم به الجزائر، بصفتها عضوًا في مجلس الأمن، بطرح قرار منه يدعو إلى وقف شامل ودائم لإطلاق النار شرطًا ضروريًا لتنفيذ قرارات المحكمة. وإذا ما قررت الولايات المتحدة إستخدام حق النقض الفيتو مجددًا لتعطيل القرار، فستصبح هي نفسها متهمة بتسهيل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ولن يمنع الفيتو الجزائر والدول الصديقة من التوجه مجددًا للجمعية العامة لاتخاذ قرار جديد بوقف إطلاق النار. ومن ناحية أخرى، ما قررته محكمة العدل الدولية، وما نشأ عنه بكون إسرائيل متهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية يمثّل منطلقًا لتصعيد غير مسبوق في حملة المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات ضد إسرائيل، حتى تنهي احتلالها ونظامها العنصري ومنظومة الاستعمار الاستيطاني الاحلالي التي أنشأتها.
ولا شك أنّ تركيز المحكمة على ضرورة توفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية لسكان قطاع غزّة، وإلزام إسرائيل بذلك، يُعتبر فرصةً واختبارًا لإرادة الدول العربية والإسلامية الـ57 التي اجتمعت في الرياض واتخذت قرارًا بكسر الحصار على قطاع غزّة، ولكنها لم تحوّله إلى أفعال، وإذا توفرت الإرادة، تستطيع تنفيذ ما اقترحناه سابقًا من تشكيل قافلة إنسانية تضم ممثلين عن جميع دولها تحمل أعلامها، وتدعو المؤسسات الإنسانية الدولية لمشاركتها في كسر الحصار غير الشرعي الذي تفرضه إسرائيل على معبر رفح، الذي لا يحق لإسرائيل السيطرة عليه. وفقط بمثل هذا الاجراء يمكن إنقاذ حياة مئات آلاف الفلسطينيين الذين يموتون يوميًا بسبب القصف الإسرائيلي والأمراض التي بدأت تفتك بهم، وانعدام مقوّمات الحياة الأساسية، وتعرّضهم لأمراض جديدة بسبب غرق خيامهم الهزيلة وملابسهم وأجسادهم في مياه الأمطار وفيضان شبكات المجاري.
(خاص "عروبة 22")