رافق استقلال البلدان العربية، توجّه معظمها إلى تعزيز القوات المسلحة بهدف حماية البلد في مواجهة التحديات الخارجية، وحفظ الأمن والنظام في الداخل، وعملت سلطات الاستقلال على تطوير تشكيلات ووحدات مسلّحة ورثتها عن الإدارة الاستعمارية، كما حصل في أمثلة العراق وسوريا ومصر، فطوّرت التشكيلات الموروثة، ونظّمتها في هياكل جيش فيه تشكيلات، وأجهزة وتخصّصات، ووفّرت ما يمكن من احتياجات مادية وتقنية وخبرات للوصول بالجيش إلى القدرة على تحقيق الأهداف المطلوبة وفقًا لرؤية السلطات الحاكمة.
هزّت الانقلابات الجيوش فأضعفتها وعرّضتها لحمّى الصراعات السياسية والتصفيات الداخلية
وللحقّ فإنّ الاهتمام الذي حظيت به المؤسسة العسكرية، إضافةً إلى طبيعتها، جعلا من المؤسسة أكثر قوى الدولة والمجتمع أهمية من حيث القدرات والتنظيم والتأثير، مما أعطى القائمين عليها وعناصرها إحساس القدرة على أعمال وأنشطة تتجاوز مهماتها أو تكون موزايًا لها، وفي هذا السياق ولدت ظاهرة الانقلابات العسكرية، التي بدأها الجيش السوري بانقلاب عام 1949، ثم الجيش المصري عام 1952، والجيش السوداني 1956، والعراقي 1958، والليبي 1969… بل ان جيوشًا صغيرة قامت بانقلابات، كما في انقلاب الصخيرات بقيادة الجنرال محمد أوفقير في المغرب عام 1972، وانقلاب بقيادة العميد عزيز الأحدب في لبنان عام 1976.
سعى الجيش عبر الانقلابات للاستيلاء على السلطة، كان هدفه الظاهر والمعلن إحداث تغييرات وتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية، أما في الخفاء، فكانت الأهداف تخدم مصالح قياديين فيه أو جماعات سياسية أو تدعم مصالح دول أجنبية، ولئن هزّت الانقلابات الجيوش، فقد أضعفتها، حيث عرّضتها لحمّى الصراعات السياسية، والتصفيات الداخلية.
لم تذهب الانقلابات في البلدان العربية في مسار واحد. بعضها كما في انقلاب مصر 1952، كرّس وجود سيطرة عسكرية متواصلة، لم تنقطع إلا في فترة رئاسة محمد مرسي 2012- 2013، عادت بعدها إلى السياق ذاته، والمثال الآخر تمثله سوريا، التي كررت نحو عشر انقلابات ناجحة، قبل أن تستقر باستيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970 والبقاء فيها ثلاثين عامًا، قبل أن يرث ابنه النظام العسكري، ويحتلّ سدته ثلاثة وعشرين عامًا دون أن تتبيّن نهاية لعهده، وثمة مثال آخر، انتهى فيه الحكم العسكري، لكن استمر فيه الصراع بين تشكيلات مسلحة، كما هو حال العراق، واليمن وليبيا.
التنظيمات العسكرية الموازية صارت عاملًا في إضعاف الجيش وساهمت في تشتّته
انقلابات الجيش، التي كانت تبدو بمثابة طموحات نحو تحقيق أهداف (بغضّ النظر عن محتواها)، لم تحقّق أهدافها في الغالب، والأهم أنها أضعفت الجيوش، ودفعتها في متاهات السلطة، وهو أمر ظاهر في البلدان التي استمرت فيها سيطرة الجيش لفترات طويلة، كما في مثال مصر، التي تبدو اليوم في أضعف حالاتها، وهناك مثال العراق وسوريا المحكومين بانقلابات مغامري البعث منذ عام 1963، وقد حاول كلّ منهما بشكل منفصل عبر السلطة العسكرية توليد تنظيمات عسكرية موازية، فأطلق العراق الحرس القومي، ثم الجيش الشعبي، وفدائيو صدام وجيش القدس، ثم جاء الحشد الشعبي ليكون قوة موازية للجيش العراقي بعد إبعاده عن السلطة مع سقوط نظام صدام عام 2003، والمثال الأسوأ في سوريا. إذ تأسس الحرس القومي، ثم تحوّل إلى الجيش الشعبي وإلى جانبه كتائب البعث، وظهرت قوات المغاوير، ثم الوحدات الخاصة، ومعها سرايا الدفاع وسرايا الصراع، وبدل أن تعزّز هذه التشكيلات قوة الجيش، صارت عبئًا عليه وعاملًا في إضعافه، ودخلت أحيانًا في مواجهات معه، وساهمت في تشتّته، وتحوّل الجيش في سوريا نتفًا في سنوات الحرب، ولدت حوله وإلى جانبه عشرات التشكيلات المسلّحة الملتبسة، الأمر الذي يثبت ليس ضعفه وعجزه فحسب، إنما فقدانه أيّ دور مرتقب في مستقبل سوريا.
(خاص "عروبة 22")