وجهات نظر

الولايات المتحدة.. وصعود "نجم إيران" في الإقليم!

نهاية العام الماضي، أثيرت زوبعة تم احتواؤها سريعًا بعد تصريح المتحدث باسم "الحرس الثوري" الإيراني أنّ عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول التي قامت بها "حماس" كانت "إحدى عمليات الثأر لاغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني" في العراق قبل نحو أربع سنوات.

الولايات المتحدة.. وصعود

وبقدر ما كان هذا التصريح محرجًا لـ"حماس" وتصويرها تابعًا يتلقى أوامره من طهران، فلقد كان أكثر ضررًا لمصداقية طهران نفسها لناحية تكذيب نفي النظام الإيراني الدائم لأن يكون هو المتحكّم في تصرّفات حركات المقاومة المناهضة للصهيونية والإمبريالية الأمريكية، والمنضوية الآن تحت لواء ما يُعرف بـ"محور المقاومة".

ويكتسب حسم طبيعة العلاقة بين إيران وأطراف "محور المقاومة"، وما إذا كانت تتحرك فقط بأوامر مباشرة من طهران، أهمية متزايدة بعد إطلاق الولايات المتحدة عملية الانتقام من مقتل ثلاثة من جنودها بقاعدتها العسكرية في الأردن مؤخرًا، وهي العملية التي مثّلت إحراجًا بالغًا لإدارة الرئيس جو بايدن الذي تمسك منذ انطلاق حرب غزّة بالرغبة في عدم توسيع الصراع، وذلك بعد تجاوز "خط أحمر" يتمثل في عدم سقوط ضحايا أمريكيين في العمليات المنتظمة التي تشنها مجموعات منتمية لـ"محور المقاومة" لدعم وإسناد الفصائل في غزّة والضغط على واشنطن من أجل إجبار الكيان الصهيوني على وقف عدوانه.

طهران استغلت عملية "7 أكتوبر" لتأكيد فعالية "الشبكة" التي بناها قاسم سليماني في الإقليم

"حماس" تحديدًا، موقفها هو الأكثر تعقيدًا بين فصائل "محور المقاومة" على اعتبار انتمائها التاريخي لجماعة "الإخوان المسلمين" والمحيط السنّي العربي، كما أنها لم تشارك في إحدى أهم الجبهات القتالية التي ساهمت في ترسيخ وتطوير هذا المحور بقيادة إيران، وهي الجبهة السورية التي بدأت مع اندلاع الحرب الأهلية هناك في العام 2011، لتتدفق معها ميليشيات شيعية من لبنان والعراق وحتى أفغانستان وباكستان إلى دمشق لدعم النظام هناك.

وعندما برز نجم الحوثيين في اليمن في تلك الحقبة، لعب البعد الطائفي دورًا في سعي إيران لدعم تلك المجموعة وضمّها لـ"محور المقاومة"، خاصة أنها تواجه الخصم الإقليمي اللدود الرئيسي لطهران في المنطقة، الدولة النفطية الأكثر ثراءً وواجهة العالم السنّي، المملكة العربية السعودية صاحبة العلاقات التاريخية المتجذرة مع الولايات المتحدة.

وبعد الهجمات التي يشنّها الحوثيون على السفن الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية في البحر الأحمر، اكتسبت الميليشيا اليمنية الشيعية الزيدية شعبية على اعتبار أنهم يخوضون حرب مقاومة ضد الأطراف الشريكة في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزّة. وفي حالة إيران و"حماس"، فلقد اتفق الطرفان على تجاوز البُعد الطائفي خدمةً لمصالحهما، فمن ناحية تعتبر إيران الدفاع عن فلسطين والقدس محورًا مركزيًا في دعايتها الرسمية في إطار سعيها لتتبوّأ موقع الزعامة في الإقليم.

أما "حماس" فلقد استوعبت واقع الفوضى الذي تعيشه المنطقة العربية منذ ثورات الربيع العربي، وأدركت أنه مع انهيار أنظمة عربية رئيسية كانت تدعم "خيار المقاومة" مثل العراق وسوريا وليبيا، والتفكك العملي لتلك الدول، والارتباط الوثيق بين الأنظمة الموصوفة بـ"المعتدلة" وواشنطن، فإنه ليس أمامها بديل يمكنها من مواصلة المقاومة ضد الاحتلال سوى التعامل مع الطرف الإقليمي الوحيد الذي يتبنى خطاب المقاومة وعلى استعداد لتقديم الدعم المادي والعسكري لها.

وفي هذا السياق، فإنّ حرب غزّة الحالية تُعتبر الاختبار العملي الأهم لفاعلية "محور المقاومة" الذي عمل قاسم سليماني بدأب على بنائه منذ نحو عشرين عامًا، وتحديدًا منذ غزو واحتلال الولايات المتحدة للعراق في العام 2003.

وقد يكون صحيحًا أنّ "حماس" خططت وقررت منفردة شنّ "طوفان الأقصى"، ولكن المؤكد أنّ طهران استغلت هذه العملية لتأكيد فعالية "الشبكة" التي بناها سليماني بغرض فرض وتوسيع النفوذ الإيراني في الإقليم، ولإيصال رسالة إلى إسرائيل والولايات المتحدة بأنّ مهاجمة إيران ستشعل المنطقة برمتها عبر عدة جبهات في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وصولًا إلى فلسطين المحتلة.

كل التصرّفات الأمريكية لم تؤدّ إلا إلى صعود نجم إيران وترسيخ موقعها كقوة إقليمية كبرى في المنطقة

ولم يكن من قبيل المصادفة أنّ بايدن اعتبر في بداية العدوان على غزّة أن هدف الهجوم الذي قامت به "حماس" في هذا التوقيت تحديدًا هو رغبة طهران في وأد مشروع التطبيع بين السعودية وإسرائيل، والذي كان سيقدمه للداخل الأمريكي باعتباره الإنجاز الأضخم لصالح الحليف الأقرب لبلاده قبل انتخابات الرئاسة المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني، وفي مواجهة خصمه دونالد ترامب، الذي يفخر أنه أكثر رئيس أمريكي قدّم خدمات لتل أبيب واعترف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني، وقدّم وعودًا بتدفّق الأموال على الكيان بعد تنفيذ الاتفاقيات الإبراهيمية.

المفارقة التي لا يمكن هضمها حتى الآن، هي أنه على الرغم من العداء المعلن بين ايران والولايات المتحدة منذ نجاح الخميني في الإطاحة بالشاه الحليف الأقرب لواشنطن في العام 1979، فإنّ كل التصرّفات الأمريكية لم تؤدّ في النهاية إلا إلى صعود نجم إيران وترسيخ موقعها كقوة إقليمية كبرى في المنطقة لا يمكن تجاوزها. ولو كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة صدقت في وعودها لدول ما يسمى بـ"محور الاعتدال" وأدى مسار السلام الذي رعته منذ ثلاثة عقود إلى إنشاء الدولة الفلسطينية وانهاء الاحتلال العنصري البغيض، لما وصلنا لتلك النقطة التي تتحكّم فيها إيران في استقرار منطقة الشرق الأوسط برمّتها وتتزعّم الدفاع عن فلسطين.. التي نردد في هتافاتنا دائمًا أنها "عربية"!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن