ما وراء تشكل مبدأ بايدن

على غرار مبدأ «مونرو» في السياسة الخارجية الأمريكية في عام 1823، ومبدأ «أيزنهاور» والذي صدر عن الكونجرس الأمريكي في عام 1957 عقب حرب السويس، يتشكل الآن ما يسميه بعض الكتاب عقيدة «بايدن» أو مبدأ «بايدن» في الشرق الأوسط عبر مسارات متعددة تتعلق بالاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح وتعزيز تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع الدول العربية، وبخاصة المملكة العربية السعودية، ونزع الورقة الفلسطينية من بين أيادي إيران عبر تقليص قدرات الميليشيات التي تدعمها ماديا ولوجيستيا وسياسيا.

وفي تقدير العديد من الكتاب والخبراء فإن الإدارة الأمريكية إذا ما تمكنت من صياغة مثل هذا المبدأ إزاء الشرق الأوسط، فإنه سيكون «أكبر عملية اصطفاف استراتيجي منذ اتفاقيات كامب دافيد» وأن إرساء مثل هذا المبدأ يمثل نوعا من «الحساب المزدوج لكشف خديعة إيران استراتيجيا والشروع في مبادرة غير مسبوقة لوضع الأساس لدولة فلسطينية منزوعة السلاح ومن ثم سيكون هذا المبدأ رؤية جيو سياسية في الخارج والداخل على حد سواء.

تواترت في الأسابيع القليلة الماضية التصريحات الأوروبية والأمريكية حول بحث الاعتراف بدولة فلسطينية، واعتبار أن حل الدولتين هو المخرج الوحيد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك على لسان مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي «جوزيب بوريل» وكذلك المسؤولون الأمريكيون بدءا من «بايدن» شخصيا ووزير خارجيته «بلينكن» والذي طلب من معاونيه بحث مسألة الاعتراف بدولة فلسطينية في «الضفة الغربية» وغزة منزوعة السلاح، بعد إعداد منظمة التحرير الفلسطينية وتجديدها وإعادة هيكلة السلطة الفلسطينية لتتولى زمام الأمور في هذه الدولة الوليدة.

هذه التطورات إن على الصعيد الأوروبي وبصفة خاصة على صعيد الإدارة الأمريكية، قد تبعث على الدهشة والتفاؤل الحذر، أما مصدر الدهشة فيتمثل في غياب مثل هذه التصريحات والنوايا عن المشهد طيلة هذه العقود، نتيجة تبني المقاربة الإسرائيلية في عهد «نتنياهو» على نحو خاص بأن حل القضية الفلسطينية ليس شرطا للتطبيع مع الدول العربية ولا يمثل بوابة الدخول إلى العالم العربي والاعتراف بإسرائيل وأن القضية الفلسطينية لم تعد قائمة في جدول أعمال الدول العربية، وهو ما ثبت عدم صحته في المطلق، وأن الارتباط بين حل القضية الفلسطينية وبين تبادل العلاقات مع إسرائيل ما يزال شرطا حاسما لدى الدول العربية المؤثرة، كذلك فإن هذه التصريحات تبدو مرتبطة بمعركة طوفان الأقصى والحرب الإجرامية ضد المقاومة والشعب الفلسطيني إن في غزة أو الضفة الغربية.

أما التفاؤل الحذر والذي يتمثل في تغيير الخطاب الدولي والإقرار الأمريكي بصفة خاصة بحق الشعب الفلسطيني في الدولة على أرضه، قد يتبدد في لحظة معينة، خاصة في ظل وجود العديد من المؤشرات الواقعية التي تجعل من هذا التفاؤل أقرب إلى السراب منه إلى الواقع الفعلي؛ فحتى لحظة كتابة المقال تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية استمرار العدوان على غزة من خلال مسميات كاذبة مثل الانتقال إلى المرحلة الثالثة وتقليص الخسائر في صفوف المدنيين، وهي مسميات تحمل العديد من أوجه التناقض، فالمرحلة الثالثة تعني في الواقع استمرار القتل والعدوان وتجديد الرخصة القاتلة لإسرائيل ومنحها المزيد من الوقت لانجاز مهمتها المعلنة في القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى لديها بالقوة، أو بالتفاوض مع استمرار العدوان، أما الوجه الآخر للتناقض فإن سقوط المزيد من الضحايا المدنيين ما يزال مستمراً، وملاحقتهم أينما حلوا بالقصف والقتل، على صعيد آخر فإن الأمر لا يقتصر حتى على عدم المطالبة بوقف إطلاق النار والعدوان على الشعب الفلسطيني باعتباره المطلب الأول فلسطينيا وعربيا بل ودوليا والذي ينبغي أن يسبق شرط الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بل يمتد إلى غض الطرف الأمريكي عن اقتطاع إسرائيل جزءاً يقرب من خمس مساحة قطاع غزة واعتباره شريطا حدوديا قاتلا، لكل من يقترب من الفلسطينيين، بطول الحدود مع إسرائيل والتي تبلغ 60 كم وبعمق يصل إلى 1000 متر، وفي بعض الأماكن أكثر من ذلك، وهو الشريط الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد رفضته، ولكنها الآن تنظر إليه باعتباره إجراء مؤقتا.

من ناحية أخرى فإن الغموض يحيط بحدود الدولة الفلسطينية وآليات إنشاء وإقامة هذه الدولة، القرار الصادر عن الجمعية للأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر 2012 رقم 67/19 يعترف بحدود دولة فلسطينية في حدود الأراضي المحتلة بعد 1967 بما فيها القدس الشرقية، هل يمكن للدولة المرشحة للاعتراف الأمريكي أن تتطابق مع مضمون هذا القرار؟ أم أن الإدارة الأمريكية الديموقراطية ستعتمد الدولة الفلسطينية في صفقة القرن «لترامب» وهي الدولة التي لا تعتمد على الجغرافيا والسيادة وكأنها دولة افتراضية لا تحمل من الدولة إلا الاسم.

ينطوي الاعتراف الأمريكي المحتمل بالدولة الفلسطينية على ألغاز وكمائن ينبغي التوقف عندها، أولها استرضاء قاعدة الناخبين الديمقراطيين من الشباب المؤيد للقضية وحق الشعب الفلسطيني قبل بداية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ثانيها تفكيك شعارات وحدة الساحات ووحدة الجبهات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني وإنهاء الحرب والعدوان على غزة بطريقة تمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها التي عجزت عن تحقيقها في الواقع. لم يرتبط الحديث عن مثل هذا الاعتراف بإنهاء الاحتلال ووقف عنف المستوطنين وإخلاء المستوطنات، ولم يحدد الكيفية التي يتعامل بها مع التعبئة اليمينية العنصرية إن لدى النخبة الحاكمة الإسرائيلية أو لدى الرأي العام كما لم يشر من قريب أو بعيد إلى الكيفية التي تكفل تحقيق مطلب الدولة الفلسطينية هل مؤتمر دولي أو قرار ملزم من مجلس الأمن؟ وأن تكون إقامة الدولة الفلسطينية ملزمة لدولة إسرائيل وليس للحكومة الإسرائيلية التي قد تتغير ويتم الانقلاب عليه.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن