غير بعيدين عن تلك الأحداث، أعادت مباريات كأس أمم أفريقيا الأخيرة في "كوت ديفوار"، السردية ذاتها، إذ ومع دخول المنتخبات العربية سياق المنافسات، انتشرت سجالات تغالب وتفاضل بدايةً ضمن سياق ضيّق، ثم ما لبثت أن اتّسعت رقعتها وتمددت في الفضاء الشبكي، في شكل رهاب أو عنف سائل ومتدفق من الكل إلى الكل، تدخّل فيه مؤثرون ولاعبون وصحفيون وشبكيون من بلدان عربية مثل المغرب ومصر والجزائر وتونس وموريتانيا..
الأخطار المتعلقة بالهوية الوطنية في أحداث كأس أمم أفريقيا بدت على الشبكات شديدة الوضوح
ولم يقتصر دور هؤلاء، خاصة جمهور المؤثرين ومن خلال العقد التي يحتلها كل واحد منهم، على نقل وإعادة تحليل تفاصيل وجزئيات المباريات والأحداث وحسب، بل والسعي كذلك إلى التحكم في هذه التفاصيل وقولبتها وإعادة تقاسمها داخل الفضاءات الشبكية (فايسبوك، تكتوك، أنستغرام، إكس..)، لتعطي تمثيلات وخطابات مخصوصة، قائمة على آلية تغالب وصراع وكراهية وسب وشتم.. بين الجماهير العربية الشبكية.
يتصوّر كل صاحب خطاب من هذا النوع أنه يظهر للجمهور بطلًا هوليوديًا، وإنسانًا خارقًا لا يخشى بطش منتقم أو لومة لائم، غارقًا في آلية التغالب والصراع على نحو سائل ومتدفق، يزداد اضطرادًا بفعل تزايد أعداد المتفاعلين والمعلقين، إذ "عادة ما يتضخم لأنه ينتقل بعيدًا من المواجهة المباشرة ويركز على عمليات تكنولوجية يسيء الفاعل الأخلاقي فهمها ويعجز عن اختراق ديناميتها ناهيك عن التحكم فيها" (Zygmunt Bauman). ونقصد بذلك كيفية تحوّل فكرة العلاقة فردًا لفرد من ارتباط حصري بالناس الموجودين في سياقاتنا الشخصية الموقعية، إلى ارتباطات بالأشخاص المتاحين فقط بالنسبة إلينا من خلال الشبكات الرقمية، إذ "تستثير خطابات التغالب والصراع والصور والفيديوهات أفرادًا آخرين، فيلقون بأنفسهم في حملات بالنيابة" (Kenneth Thompson).
وما دامت الحياة الراهنة تتميّز بزيادة التقارب بيننا وتقلص المسافات الزمانية والمكانية التي حوّلت أنظمتنا الاجتماعية والسياسية إلى صناديق شفافة ترقد فيها عارية حياتنا اليومية، فإنّ الأخطار المتعلقة بالهوية الوطنية في أحداث كأس أمم أفريقيا قد بدت على الشبكات شديدة الوضوح، في شكل "حيز ثقافي واجتماعي 'آخذ في الازدحام' بتزايد الصدام العنيف بين الهويات والأيديولوجيات، وبناء الأسوار العالية في الانسحاب إلى العديد من الأصوليات 'المحلية' الراسخة - سواء كانت وطنية، أو عرقية، أو دينية أو خاصة بالجنوسة، أو جنسية، أو حتى بيئية" (Tomlinson)، لم تجد خيرًا من الملاعب والمباريات لتصريف رداتها.
تحوّلت فضاءات ومدرّجات الملاعب فرصة للتصريف السياسي من أجل تحويل الوضعية الداخلية نحو قضايا خارجية
ومن ثم تحوّلت فضاءات ومدرّجات ملاعب البلد المنظّم للكأس وكذلك الشبكات الرقمية التي جرى إلحاقها بها، فرصة للتصريف السياسي بامتياز، ليس فقط من أجل ضبط سلوك الجماهير في بلد ما، بل وكذلك من أجل تحويل الوضعية الداخلية لهذه البلدان نحو قضايا خارجية عن طريق تفعيل النزعة العدائية واستبدال موضوعها الأساسي بموضوع بديل يقلّص من أشكال الرفض والعداء نحو النظام القائم، ومعارضة توجّهاته وسياسته، ومن ثم إخراج المشاعر السياسية الكامنة وغير القابلة للتحقّق واقعيًا في أشكال تعويضية بعيدة عن موضوعها الأساس بلغة "فرويد".
ومع أنّ التنازع والتدافع هو شريان أي رياضة ونقطة ارتكازها الفاعلة في قلوب المشجعين والمتابعين، إلا أنّ تحوّلها إلى أداة صراع وتغالب وممارسة نوع من الاغتيال الرمزي للعلاقات والروابط الاجتماعية والجغرافية والتاريخية بين الأشقاء العرب، أصبح يشكل تهديدًا لكل إرادة حقيقية في تأسيس فضاء عمومي عربي منفتح وأخلاقي. حيث صار المجتمع الشبكي في صيغته العربية راهنًا عاجزًا عن كبت أشكال الكراهية وآلية التغالب والصراع السائل، وسيتعاظم على نحو أشد تأثيرًا وحضورًا في المستقبل، ولذلك نجد نسقًا معيّنًا من كتب الخيال العلمي يُعرف بـ"السايبر بانك " (cyberpunk) قد ركّز على المخاوف التي تثيرها سياسات الهوية، حيث إن "مؤلفي هذا النسق مثل (William Gibson, Neal Town Stephenson, Michael Bruce Sterling)، لم يخافوا من مستقبل تسيطر عليه الديكتاتوريات المركزية، بل من مستقبل التشرذم الاجتماعي الفالت من عقاله بتسهيل من الإنترنت" (Francis, Fukuyama).
(خاص "عروبة 22")