في يوم الاثنين الموافق 29 يناير الماضي فاجأ ديفيد كاميرون وزير الخارجية البريطاني الجميع، وأعلن أن بلاده تدرس مع حلفائها ومع الأمم المتحدة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بصورة لا رجعة فيها».
الذين تابعوا هذا التصريح المهم، من الفلسطينيين والعرب، وحتى بعض المؤيدين للجانب الفلسطيني عالمياً ساورتهم آمال وتمنيات أن تترجم بريطانيا هذا التصريح عالمياً حتى تصحح التصريح الأشهر عالمياً في 2 نوفمبر 1917 لوزير الخارجية البريطانى الأسبق أرثر بلفور حينما قدم لليهود وعداً بريطانياً بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.
تفاصيل ما قاله كاميرون خلال حديثه أمام «مجلس المحافظين للشرق الأوسط» أنه يجب منح الفلسطينيين أفقاً سياسياً لتشجيع السلام في الشرق الأوسط، وأن تتولى سلطة فلسطينية جديدة بقيادة من التكنوقراط حكم قطاع غزة. كاميرون قال إن هناك مساراً ينفتح وأن التقدم في إيجاد حل سياسي يمكن أن يعني سلاماً لسنوات بدلاً من أشهر.
نعود إلى الماضي مرة أخرى لنذكر أن وزير الخارجية البريطاني أرثر جيمس بلفور بعث برسالة إلى ليونيل والتر روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في 2 نوفمبر 1917 جاء فيها نصاً: «إن حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل عظيم جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية».
107 أعوام مرت على هذا الوعد الذي لا ينساه الفلسطينيون ومعهم غالبية العرب ويرونه «مشؤوماً»، بل ويقولون إن من لا يملك وهو بريطانيا أعطى من لا يستحق أي اليهود حق إقامة وطن في فلسطين.
107 أعوام مرت على هذا الوعد، وجرت في النهر مياه كثيرة وغزيرة، وتغير شكل المنطقة وشكل العالم، بل إن إسرائيل التي نشأت بعد النكبة العربية في مايو 1948، صارت أقوى دولة في الشرق الأوسط، ولديها ترسانة نووية، وتحظى بدعم من أقوى دولة في العالم هي الولايات المتحدة، ومعها غالبية الدول الغربية الكبرى. لكن كل هذه القوة وهذا الدعم واسع النطاق، لم يجعل الفلسطينيين ينسون آمالهم في إقامة دولة مستقلة على حدود 4 يونيو 1967.
فائض القوة الإسرائيلي بلغ حدوداً غير مسبوقة عالمياً في البطش خصوصاً في العدوان المستمر على غزة منذ 7 أكتوبر الماضي، وأدى إلى خسائر غير مسبوقة، تمثلت حتى الثالث من فبراير الجاري أي بعد 120 يوماً إلى الآتي:
27238 شهيداً رسمياً منهم 12 ألفاً من الأطفال و8190 من النساء و339 من الطواقم الطبية و46 من الدفاع المدني و122 من الصحافيين، وسبعة آلاف من المفقودين و66452 مصاباً منهم 11 ألفاً يحتاجون للسفر العاجل وعشرة آلاف مريض بالسرطان يواجهون خطر الموت وتدمير 70 ألف وحدة كلياً و290 وحدة تم تدميرها جزئياً ومئات المنشآت والمؤسسات والكنائس والمساجد والمستشفيات. والأخطر 2 مليون نازح بعد أن صارت غزة مكاناً غير صالح للحياة.
هذه الخسائر غير المسبوقة، والصور المأساوية التي تبثها بعض وسائل الإعلام وخصوصاً السوشيال ميديا، دفعت كثيرين في كل بلدان العالم للتحرك والاحتجاج، خصوصاً في عواصم ومدن معروفة بتأييد إسرائيل تاريخياً مثل لندن وبرلين وواشنطن ونيويورك.
لكن الأهم أن هذه العواصم الكبرى، خصوصاً لندن وواشنطن، وصلت إلى قناعة مهمة أنه يستحيل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة والضفة، لأن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يقبل العيش داخل قفص. هذا الإدراك هو الذي دفع كاميرون للتعبير عن القناعة البريطانية بأن إسرائيل فشلت طوال 30 سنة في تحقيق الأمن لنفسها عبر الاحتلال، وبالتالي فلا مفر من الوصول إلى إقامة دولة فلسطينية، بجوار إسرائيل.
يقول بعض المتشائمين العرب إن ما قاله كاميرون مجرد تصريحات لتخدير الفلسطينيين، وإن بريطانيا لو كانت جادة، فعليها أن تعلن اعترافها فوراً بالدولة الفلسطينية، وأن تذهب إلى مجلس الأمن لتعلن ذلك، وأن تتوقف عن الدعم الأعمى والمفتوح لإسرائيل منذ عام 1917 وحتى هذه اللحظة.
لكن ولأن السياسة لا تسير بالتمنيات فقط، أو بمنطق «الأبيض والأسود» فمن المهم أن ينظر الفلسطينيون والعرب إلى «وعد كاميرون» من الجانب بالإيجابي، وهو أنه تطور مهم جداً، بل وتاريخي وينبغي الترحيب به والبناء عليه، خصوصاً أن هناك العديد من التقديرات تقول إن لندن ما كان يمكن لها أن تعلن عن هذا الوعد من دون مشاورة واشنطن. بل يذهب هؤلاء للقول إن هذا الوعد أمريكي في الأساس وتم إطلاقه كبالون اختبار.
وإلى أن نرى ذلك متحققاً على أرض الواقع وتسنده تحركات عملية، وجب الحرص والحذر وعدم المبالغة في التفاؤل خصوصاً أن الفلسطينيين والعرب سمعوا آلاف التصريحات المعسولة المماثلة، لكنها كانت جوفاء تماماً.
("البيان") الإماراتية