وجهات نظر

"أونروا" والفشل الأخلاقي لنُخب الحُكم الغربية

وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة "أونروا"، التي تأسّست قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن، مواكبة لنكبة العام 1948 حين شُرّد وطُرد شعب فلسطين من أرضه كي يُقام عليها كيان عنصري وعدواني مدجّج بشتى أسلحة الفتك والدمار، ابتداءً من الأيديولوجية الصهيونية وحتى القنبلة النووية.

هذه الوكالة العريقة تواجه الآن حملة تشهير وحصارًا ماليًا قاسيًا جدًا بعدما أطلق العدو سردية تافهة وضعتها في قفص اتهام بأنها صارت أداة لحركة "حماس".. لماذا؟ لأنّ بضعة موظفين، من ضمن عشرات آلاف العاملين بها يُشتبه أنهم على علاقة بهذه الحركة (!!).

فورًا، ودون انتظار لأي تحقيق، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها حكومات توابعها الغربيات أنها جميعًا أوقفت مساهمتها المالية في ميزانية الوكالة العتيدة التي تُقدّم خدماتها الحيوية لأكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني من بينهم أغلب سكان قطاع غزّة الذين يعانون حاليًا من محرقة رهيبة غير مسبوقة في كل التاريخ الحديث للحروب.

النُخب الغربية لديها ميل غريزي إلى دعم كيان عنصري متوحّش يلعب دورًا وظيفيًا في خدمة النظام الإمبريالي الغربي

لقد فقدت المنظمة بهذا الإجراء العقابي الفادح نحو 70% من مصادر دخلها الذي تنفق منه على سائر أنشطتها الإغاثية لجحافل اللاجئين الفلسطينيين في مناطق شتاتهم التليد، خصوصًا في الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وغزّة.

هذا الإجراء الوحشي تجاه منظمة إنسانية دولية لا يمكن تعويض غيابها وتجاهل تأثيره بالغ الخطورة على ملايين البشر، صدم كثيرين بعنف في أربعة أركان العالم ودفع العديد منهم إلى التساؤل بارتياع: من أي شيء قُد هؤلاء المسؤولون في الكثير من دول الغرب؟.. وهل مجرد أنهم نخبة سياسية ذات توجهات إمبريالية خام، وبعضهم (خصوصًا في أمريكا) يعتنقون عقيدة الصهيونية المسيحية التي قوامها هلوسات دينية منقوعة في عنصرية مقيتة، ما يجعل هذه النخب دائمًا لديها ميل غريزي إلى دعم كيان عنصري متوحّش يلعب دورًا وظيفيًا في خدمة النظام الإمبريالي الغربي؟!.. لكن هل هذا المبرر الأيديولوجي يصلح وحده تفسيرًا لسلوك على هذا القدر من الفجاجة والغباء؟!.

غالب الظن أنه غير كافٍ لتفسير ما فعله الجزء الأكبر من نخب الحكم الغربية (أغلبيتهم يمين صريح أو يمين مستتر) بشأن وكالة "الأونروا" وأكملوا به مواقفهم المخزية من المحرقة البشعة المستمرة في غزّة، والتي يريد الكيان الصهيوني إتمامها بإلغاء شعب فلسطين ماديًا ومعنويًا وشطبه نهائيًا من أجندة النظام العالمي، فالقضية هنا ليس فقط إنهاء الدور الإغاثي للأونروا وإنما القضاء النهائي عليها لأنّ مجرد وجودها يُذَّكر الناس بوجود شعب كامل تم نشل وطنه وتشريده في حادثة تاريخيّة نادرة في كل مسيرة البشرية.

إذن ما السبب وراء فضائح هذه النخب الغربية وما سر قسوتها المفرطة تجاه الشعب الفلسطيني؟.. يبدو أنّ الأمر ليس دافعه سبب واحد وإنما خليط من الأسباب، أولها أيديولوجي طبعًا، لكن لا بد هنا من ملاحظة مفارقة أنّ "الأونروا" التي تتعرض حاليًا لهجمة غربية وحشية، هي أصلًا صناعة غربية إذ تأسست بغرض علاج بعض آثار الجريمة الرهيبة الكبرى التي وقعت في العام 1948 عندما تم تنفيذ عملية سرقة فلسطين من شعبها باستخدام قطعان الصهاينة الأوائل.. فما الفارق بين حكومات الغرب الإمبريالي القديمة وحكوماته الحالية؟.

يسعون الآن إلى تمزيق "ورقة التوت" التي حاولوا ستر آثار جريمتهم الكبرى عام 1948 بها وإكمال فعل الإبادة

المؤكد أنّ أغلب نخب الحكم هذه كانت وما زالت ضمن النطاق الإمبريالي نفسه، ولكن ما حدث أنّ هذه النخب تبدو الآن أكثر تفاهة وأقل ثقافة من أسلافهم الذين كانوا، رغم بشاعتهم وارتكابهم أحطّ الجرائم ضد الإنسانية، يتمتعون بقدر معقول من الخبث والذكاء بما سمح لهم باستعمال بعض مساحيق التجميل في محاولة لستر قبح جرائمهم المشينة، لهذا ساهموا بقوة في تأسيس "الأونروا" كوكالة أممية معنية بشؤون اللاجئين الفلسطينيين فقط، وليس غيرهم!.

لكن أحفادهم يسعون الآن إلى هتك وتمزيق حتى "ورقة التوت" التي حاولوا ستر آثار جريمتهم بها، وإكمال فعل الإبادة الذي يمارسه العدو حاليًا.

إنه إمعان في الجريمة، ولكنه أيضًا إفراط في الغباء والتفاهة والتناقض التام مع قطاعات واسعة من شعوبهم الذين وخزت ضمائرهم بعنف مشاهد المحرقة الرهيبة التي يقيمها العدو في غزّة.. لقد عرفنا الآن مِن أي ثغرة يتسرّب منها اليمين الشعبوي ويصعد إلى سدة الحكم في الكثير من عواصم بلدان الغرب بعدما فقدت النخب السياسية التقليدية (يمينًا ويسارًا) ليس ثقة واحترام أغلبية مجتمعاتها فحسب، لكن انكشافها وهي متخمة بالتفاهة والجهل، فضلًا عن الفشل الأخلاقي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن