تقدير موقف

النزاعات في العالم لسنة 2023: تشخيص واستشراف (2/2)

هذه وقفة ثانية مع عدد نوعي لمجلة "دبلوماسي" الفرنسية، والتي نشرت ملفًا ضمن سلسلة ملفات كبرى، صدر في ديسمبر/كانون الأول 2023 – يناير/كانون الثاني 2024، يتطرّق إلى وضعية النزاعات في العالم لسنة 2023. وانطلقت أولى خلاصات الملف من الفوارق الجلية بين أحداث سنة 2022، والتي عرفت اجتياح أوكرانيا، وعودة الحرب في أوروبا، مقارنةً مع أحداث سنة 2023، التي عرفت انقلابًا كبيرًا في الوضع الجيوسياسي العالمي. وهو وضع يُكرّس الميل إلى النزاع في ظل صراع استراتيجي دولي جديد.

النزاعات في العالم لسنة 2023: تشخيص واستشراف (2/2)

تضمّن الملف، الحديث عن النزاعات في أوروبا، وذلك في أوكرانيا التي تحتلّ الرتبة 113 في مؤشر نورماندي للسلم (أي 4,77). وكذلك النزاع بين أرمنيا (الرتبة 27 في مؤشر نورماندي، 6,72) وأذربيجان (الرتبة 70 في مؤشر نورماندي، 5,75)؛ قبل الإشارة إلى التوتر بين كوسوفو وصربيا (الرتبة 26 في مؤشر نورماندي، 6,75)؛ وهو نزاع قابل للانفجار من جديد ومرتبط إلى حد ما بما ستؤول إليه الأمور في أوكرانيا.

كما رصدت المجلة على مستوى أمريكا، ثلاثة بلدان وهي المكسيك التي تحتل الرتبة 89 في مؤشر نورماندي (أي 5,24)، وهي تعاني من ارتفاع مؤشّرات الإجرام ونزاع العصابات التي تحاول الهيمنة على مجال تجارة المخدرات خصوصًا في إقليم "Chiapas"؛ الذي عانى من التهميش وعدم الاهتمام من الحكومة المركزية. وكذلك دولة هايتي، التي تحتل الرتبة 116 في مؤشر نورماندي (أي 4,55)، والتي تعاني من عدم الاستقرار بسبب أزمة متعدّدة الأبعاد، فهي أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية، والبلد حاليًا فريسة للعصابات التي تستحوذ على 80% من مجال العاصمة؛ وقتلت حوالى 2800 شخص واختطفت آلاف الأشخاص لحصول على فدية وذلك سنة 2023. وقد قرّرت جمهورية الدومنكان، بناء جدار فاصل بينها وبين هايتي، حيث الحدود تقدّر بحوالى 300 كلم.

صورة قاتمة لمنطقة الشرق الأوسط التي تواجه تهديدات عديدة وخطيرة

وتعاني البرازيل بدورها من الصراع الشرس بين المنظمات الإجرامية، وتحتل الرتبة 73 في مؤشر نورماندي (أي 5,66). وستعاني دول جنوب أمريكا، خصوصًا المكسيك وكولومبيا والبرازيل من حروب ضد منظمات الجريمة المنظمة، ويمكن أن تنتقل العدوى إلى باقي دول المنطقة.

أمّا في الشرق الأوسط، فأكدت المجلة على خطورة أحداث غزّة واحتمال اشتعال حرب شاملة في المنطقة بكاملها؛ وتحتل إسرائيل الرتبة 59 في مؤشر نورماندي (أي 5,19).

وحسب تحليل المجلة، فإنّه بالرغم من "التفوّق" العسكري الإسرائيلي، فإنّ إسرائيل لن يكون بمقدورها اجتثاث حركة "حماس". كما أنّ توغل إسرائيل في منطقة غزّة، سيؤدي إلى حرب إقليمية، ومن الممكن أن تواجه إسرائيل، كذلك "حزب الله" وحركة "الحوثيين" وذلك لاعتبارات متعددّة. وأشارت المجلة إلى الوضع في لبنان (الرتبة 121 في مؤشر نورماندي) وسوريا (الرتبة 130) والعراق (الرتبة 133) واليمن (الرتبة 134)، مما يوحي بصورة قاتمة ومواجهة المنطقة لتهديدات عديدة وخطيرة.

وبالنسبة لأفريقيا، فقد خصّصت المجلة حيّزًا من التحليل لدولة مالي (الرتبة 130 في مؤشر نورماندي) وبوركينافاسو (الرتبة 114) والنيجر (الرتبة 119) وموزنبيق (الرتبة 130) والسودان (الرتبة 111) والجمهورية الديموقراطية للكونغو (الرتبة 135) وإثيوبيا (الرتبة 124) وجنوب السودان (الرتبة 131).

دول الساحل حسب المجلة نفسها، تتخبّط في أزمة متعدّدة الأبعاد، فهناك الانقلابات والصراع مع الجماعات الإرهابية ونزاع حاد مع الغرب، خصوصًا فرنسا، وكذلك منظمة الإيكواس ومعاناة شعوبها من تداعيات العقوبات وتوقف المساعدات. وعمومًا فإنّ الدول الأفريقية التي تم رصد وضعها، تعاني هشاشة خطيرة، مما يوحي بأنّه من الصعب أن تتمكّن في السنوات القادمة، الانفلات من دوامة العنف والفوضى.

القرصنة الرقمية والحرب السيبرانية هي جبهة خفية للصراعات الدولية وفي تطوّر مقلق يهدد استقرار العالم

وعلى مستوى آسيا، فإنّ الرصد شمل التايوان، التي تتصارع حولها أمريكا والصين، وفي حالة اندلاع نزاع فيها، فإنّ ذلك سيكون جد مكلف بالنسبة للاتحاد الأوروبي، حسب تحليل فرنسوا إتيان الذي يعتقد بأنّ ذلك سيكون أكثر دمارًا من اجتياح روسيا لأوكرانيا، مما يستدعي التفكير جيدًا في الوضع هناك.

أما مينامار (بورما) التي تحتل الرتبة 117، فإنّها تعاني من النزاعات العرقية والفقر وانتهاك حقوق الإنسان والتغيّرات المناخية وعدم الاستقرار السياسي وهشاشة الدولة. وبالنسبة للهند التي توجد في الرتبة 112، فإنّها تواجه مخاطر الصراع على الحدود مع باكستان والصين، وكذلك تعاني من تعثّر المسار الديموقراطي وتمرّد التيار اليساري الانفصالي (Naxalistes) وكذلك تطرّف السيخ والعنف المتواصل في البنجاب.

أمّا افغانستان التي توجد في رتبة متدنية في مؤشر نورماندي للسلم، (137، أي 2,82)، فإنّها تعاني من أزمة اقتصادية خطيرة، بالإضافة إلى تداعيات التغيّرات المناخية، التي تهدد بمجاعة شاملة. وأخيرًا، بالنسبة إلى باكستان، فإنّها تحتل الرتبة 127، وتواجه الجماعات الإرهابية والانفصاليين وعدم الاستقرار بسبب الأزمة المالية، هذا إضافة إلى التغيّرات المناخية التي تساهم في تفاقم الوضع.

وختمت المجلة تحليلها لوضع النزاعات في العالم بحوار مع أحد الإعلاميين المتخصّصين في قضايا الحرب الرقمية الذي أكد فيه على كون القرصنة الرقمية والحرب السيبرانية هي جبهة خفية للصراعات الدولية وهي في تطوّر مقلق يهدد استقرار العالم، كما تمّ الحديث في مقال أخير عن النزاع بين إسرائيل وغزّة باعتباره حربًا رقمية غير مسبوقة في العالم، بحيث أشار كاتب المقال إدوارد بونتوازو، إلى رمزية الهجوم الفلسطيني الرقمي على المواقع الحكومية الإسرائيلية وبيان هشاشة النظام الرقمي الإسرائيلي والذي تدّعي إسرائيل أنه جد قوي.

هناك حاجة ماسّة إلى فكر استراتيجي عربي موحّد قادر على تقديم خطط فعّالة

كما أشار الكاتب نفسه إلى دور القراصنة الهنود في مساندة إسرائيل في حربها الرقمية حيث يشنّ القراصنة من الهند هجومًا متواصلًا ضد المواقع الحكومية الفلسطينية. وتحدث الكاتب عن حرب رقمية أخرى يشارك فيها أطراف متعددة وهي حرب الصور واستعمال الذكاء الاقتصادي في ذلك، ويلاحظ بأنّ هناك جبهتين، واحدة تتكوّن من إسرائيل وحلفائها، والأخرى من "حماس" وإيران ودول أخرى. وهي حرب يخشى الكاتب أن تتجاوز الجانب التقني والنفسي لتصبح حربًا دينيةً وعقديةً شاملةً.

يُلاحظ بأنّ المنطقة العربية هي جزء مهمٌ من هذا الوضع العالمي الهش وأنّها محاطة بسلسلة من النزاعات التي تهدّد استقرارها وأمنها الحالي والمستقبلي، وهناك حاجة ماسّة إلى فكر استراتيجي عربي موحّد قادر على تقديم خطط فعّالة للإبحار في هذه الأزمنة ما بعد العادية وتأسيس ثقافة استراتيجية للصمود الجيوثقافي.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن