المتتبع لتاريخ "الإصلاح" الفلسطيني يعرف أنّ دولة الاحتلال والدول الغربية تهدف من خلاله إلى جلب أشخاص قريبن منها في التفكير لتتبوأ سدّة السلطة، يتساوقون إلى حد كبير مع سياساتها وينفذون خططها التي ترمي في جوهرها إلى السيطرة على الشعب الفلسطيني ودفعه إلى التخلي عن مبدأ مقاومة الاحتلال.
ظهرت مظاهر الفساد باكرًا عند إنشاء السلطة الفلسطينية، خصوصا إبان تلك التحقيقات في المجلس التشريعي الأول والذي حقق في قضايا فساد كبيرة أجبرت العديد من الوزراء على تقديم استقالتهم بتهمة اختفاء العديد من المبالغ الطائلة، ولكن للأسف الشديد بعد هذا التحقيق عاد الوزراء أنفسهم إلى الحكومة دون أن يتم عقابهم أو أقله عدم مصادقة المجلس التشريعي في تلك الفترة على الحكومة، الأمر الذي جعل الدكتور حيدر عبد الشافي يستقيل من المجلس التشريعي بعد إدراكه بأنه لن يستطيع أن يحارب الفساد من خلال المجلس التشريعي الأول بعدما حاول مع مجموعة صغيرة من أعضاء المجلس عدم المصادقة على الحكومة التي عاد أعضاؤها إثر استقالتها لضلوعها بالفساد... والغريب أنّ الدول الغربية لم تعلّق على هذه الحادثة بل على العكس من ذلك استمر تعاملها مع هذه الحكومة كأنّ شيئًا لم يكن، لا سيّما وأنّ هذه الدول من خلال مشاريعها رعت الفساد في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الفلسطينية وتعاملت مع أناس لهم باع طويل في الفساد والإفساد.
تغيير سياسة الاحتلال والدول الغربية تجاه السلطة
بعد الانتفاضة الثانية، والتي على إثرها تمت عمليات عسكرية كبيرة ضد الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، بدأ الغرب وخصوصًا الولايات المتحدة يتحدثون عن ضرورة "إصلاح" السلطة الفلسطينية، وبالتوازي كان رد الاحتلال كبيرًا تجاه السلطة بشخص الرئيس ياسر عرفات، فتمت محاصرته واقتحام مكتبه والحصول على أوراق تؤكد في حينه دعمه المجموعات المسلّحة لحركة "فتح" وأحيانًا "حماس" ونشرتها في تلك الفترة عبر وسائل الإعلام، وقد بثت إذاعة الاحتلال صورةً لكتاب كان مُقدّمًا من مروان البرغوثي لرائد الكرمي الذي أقدم الاحتلال الاسرائيلي على اغتياله لمسؤوليته المباشرة عن عمليات كبيرة نُفّذت ضد الاحتلال ما يؤكد اشتراك "أبو عمار" بشكل مباشر في الأعمال العسكرية ضد الاحتلال.
في تلك الفترة، بدأت محاولات إسرائيل للانقضاض على "أبو عمّار" وإيجاد قنوات مالية بعيدًا عنه لتتحكم فيه وتمنعه من دعم المجموعات المسلحة، لذلك بدأ في تلك الفترة الحديث عن "الإصلاح" وهو ما تمثّل في وضع دستور فلسطيني، لم يُطبّق لغاية هذه اللحظة، وضع منفذًا وحيدًا للمال لمنع "أبو عمار" من تمويل المقاومين، ومن يتذكر تلك الفترة يعرف كيف قام جورج بوش في خطاب علني له بتسمية وزراء محسوبين على "التكنوقراط" للقيام بهذه المهمة.
وبعد موت "أبو عمار" - أو اغتياله - حدثت انتخابات جديدة رئاسية وتشريعية بفترات متباعدة، وحينما لم تأتِ نتائج الانتخابات التشريعية على مقاس ما تفصّله وتريده الحكومة، قامت الدول الغربية دون استثناء في محاسبة الشعب الفلسطيني على خياره الديمقراطي وعمدت إلى مقاطعة الحكومتين التي نشأت عن انتخابات المجلس التشريعي، ومنها حكومة الوحدة الوطنية التي جمعت بين مكونات جميع القوى الفلسطينية تقريبًا خصوصًا منها التي حصلت على مقاعد في المجلس التشريعي الجديد، ما أدى في نهاية المطاف إلى إعادة تكريس الانقسام الجيوسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزّة والذي ما زال قائمًا حتى يومنا هذا.
على الأثر، حوصر قطاع غزّة من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بينما ظل موضوع الضفة الغربية يتأرجح حسب المواقف السياسية، وحصلت تجاوزات كبيرة في تلك الفترات منها إلغاء المجلس التشريعي وتعطيل الانتخابات ولم نسمع أي كلمة من الدول الغربية حينها عن ضرورة إحداث إصلاح أو تغيير في السلطة إلا بعدما تأكد لهذه الدول أنها أصبحت غير قادرة على ضبط الإيقاع في الضفة، وبعد أن تأكد لهذه الدول أنّ حركة "حماس" استغلّت الانقسام لتبني منظومة مقاومة مسلّحة قادرة على تحقيق انتصار كبير على الاحتلال، كما حصل في "طوفان الأقصى" الذي لولا الدعم الغربي العسكري والمالي لإسرائيل لكان سجّل التاريخ هزيمة ساحقة لهذه الدولة المارقة في السابع من أكتوبر.
هنا يتضح لنا ما هو "الإصلاح" التي تتحدث عنه الدول الغربية، والذي لا شك أنه يندرج ضمن محاولات احتواء جديدة لبيع الوهم للفلسطينيين من خلال أشخاص يُسمّون "تكنوقراط" بعيدين عن الحركة الوطنية الفلسطينية، علمًا أنّ في هذه الحركة شخصيات أكاديمية كبيرة قادرة على حمل الراية الوطنية لكنهم مرفوضون من الولايات المتحدة التي تريد تعيين أشخاص في السلطة الفلسطينية يتولون تنفيذ السياسة الإسرائيلية.
(خاص "عروبة 22")