بَيَّنَتِ المُمارَسَةُ السِّياسِيَّةُ أَنَّ الدُّوَلَ العَرَبِيَّةَ المُسْتَقِلَّةَ وَقْتَها، وَتِلكَ التي اسْتَقَلَّتْ من بَعْدِها، خِلالَ الخَمْسينِيّاتِ وَالسِّتّينِيّاتِ مِنَ القَرْنِ الماضي، لَمْ تولِ أَيَّ اهْتِمامٍ بِهَذا الإِعْلانِ من ناحِيَةِ تَطْبيقِ بُنودِهِ المُخْتَلِفَةِ سَواءٌ ما يَخُصُّ الحُقوقَ السِّياسِيَّةَ وَالدُّسْتورِيَّةَ أَوِ الحُقوقَ الِاجْتِماعِيَّةَ وَالاقْتِصادِيَّة. لِذَلِكَ، اتُّهِمَتْ تِلكَ الأَنْظِمَةُ بِمُخْتَلِفِ تَوَجُّهاتِها الفِكْرِيَّةِ وَالسِّياسِيَّةِ بِعَدَمِ الِاهْتِمامِ بِمَبادِئِ الإِعْلانِ العالَميِّ لِحُقوقِ الإِنْسانِ وَبِإِهْمالِها لَهُ، الأَمْرُ الذي ساهَمَ في تَعْميقِ التَّأَخُّرِ العَرَبيِّ وَتَعْميمِهِ جُغْرافِيًّا وَاجْتِماعِيًا.
يَذْهَبُ البَعْضُ في اتِّهامِهِ تَيّاراتِ الفِكْرِ القَوْميِّ العَرَبيِّ بِمُخْتَلِفِ مَدارِسِهِ بِتَغْييبِ المَسْأَلَةِ الدّيموقْراطِيَّةِ بِكُلِّ أَبْعادِها في بَرامِجِها السِّياسِيَّة. قَدْ يَنْطَبِقُ هَذا الرَّأْيُ على مَرْحَلَةٍ زَمَنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ من تَطَوُّرِ القُوى القَوْمِيَّةِ وَالوَطَنِيَّةِ العَرَبِيَّةِ التي فَرَضَتْ عَلَيْها الظُّروفُ وَضْعَ أَهْدافِ التَّحَرُّرِ القَوْميِّ وَالوَطَنيِّ كَأَوْلَوِيَّةٍ نِضالِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ بِاعْتِبارِ أَنَّ مَجالَ المُمارَسَةِ الدّيموقْراطِيَّةِ غَيْرُ مُتَوَفِّرٍ وَالأَوْطانُ مُحْتَلَّةٌ أَوْ خاضِعَةٌ لِسُلطَةٍ وَطَنِيَّةٍ جابَهَتْها ظُروفٌ مُعَيَّنَةٌ داخِلِيَّةٌ وَتَحَدِّياتٌ خارِجِيَّة، لَمْ تَسْمَحْ لَها بِالتّالي بِالِالتِزامِ بِمَبادِئِ حُقوقِ الإِنْسانِ على الرَّغْمِ من رَفْعِها لِشِعاراتِ الحُرِّيَّةِ وَالدّيموقْراطِيَّة.
الطريق إلى الوحدة العربية يتطلّب أن تتوافر لكلّ مواطن عربي الحقوق الأساسية للإنسان
وَبِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ صَوابِ تِلكَ الآراءِ من عَدَمِه، من غَيْرِ المُمْكِنِ اعْتِمادُ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الإِطْلاقِيَّةِ وَسَحْبُها على مُجْمَلِ الأَنْظِمَةِ وَالتَّيّاراتِ السِّياسِيَّةِ وَالفِكْرِيَّةِ العَرَبِيَّة. فَفي الواقِع، لَمْ تَكُنْ مَبادِئُ حُقوقِ الإِنْسانِ وَالمَسْأَلَةُ الدّيموقْراطِيَّةُ عامَّة، غائِبَةً تَمامًا عَنِ الاتِّجاهاتِ العُروبِيَّةِ وَالقَوْمِيَّةِ التي سادَتْ خِلالَ الخَمْسينِيّاتِ وَالسِّتّينِيّاتِ مِنَ القَرْنِ الماضي. كَما أَنَّ التَّيّارَ الدَّوْلِيَّ المُطالِبَ بِضَماناتٍ دَوْلِيَّةٍ لِحُقوقِ الإِنْسان، لَمْ يَكُنْ مَجْهولًا أَوْ غائِبًا عَنِ الفِكْرِ السِّياسيِّ العَرَبيِّ عامَّة، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ اعْتِرافِ الأَنْظِمَةِ السّائِدَةِ فيها وَمُمارَسَتِها على أَرْضِ الواقِع.
وَمن بَيْنِ المُؤَسَّساتِ التي تُقَدِّمُ لَنا دَليلًا على اقْتِرانِ الفِكْرَةِ العَرَبِيَّة، لَدى النُّخْبَة، في تِلكَ المَرْحَلَةِ بِالتَّوَجُّهاتِ الدّيموقْراطِيَّة، قَراراتُ وَتَوْصِياتُ مُؤْتَمَرِ الخِرّيجينَ العَرَبِ الدّائِمِ لِقَضايا الوَطَنِ العَرَبيِّ خِلالَ دَوْرَتِهِ الثّانِيَةِ التي انْعَقَدَتْ في القُدْسِ أَوائِلَ شَهْرِ سِبْتَمْبِر/أَيْلولَ سَنَةَ 1955 الذي كانَ يُمَثِّلُ نُخَبًا سِياسِيَّةً وَثَقَافِيَّةً وَأَكاديمِيَّةً من مُخْتَلِفِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ مِنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ العَرَبِيّ، وَكانَ من بَيْنِ اللِّجانِ التِّسْعِ لِهَذا المُؤْتَمَرِ لَجْنَةُ حُقوقِ الإِنْسانِ وَلَجْنَةُ الدُّسْتورِ الاتِّحاديِّ لِلدَّوْلَةِ العَرَبِيَّةِ المَوْعودَة.
وَمن أَبْرَزِ ما يُلاحَظُ أَنَّ القَانونَ الأَساسِيَّ لِدَوْلَةِ "الاتِّحادِ العَرَبيِّ" المُقْتَرَحَ من قِبَلِ المُؤْتَمَر، اعْتَمَدَ الإِعْلانَ العالَمِيَّ لِحُقوقِ الإِنْسانِ كَمَرْجِعِيَّةٍ لَه. إِذْ أَكَّدَتِ المادَّةُ الخامِسَةُ مِنَ الدُّسْتورِ على أَنْ "يَتَمَتَّعَ المُواطِنونَ في دَوْلَةِ الاتِّحادِ على اخْتِلافِ أَجْناسِهِمْ وَمَذاهِبِهِمْ بِالحُرِّيّاتِ وَالحُقوقِ التي كَفِلَها الإِعْلانُ العالَمِيُّ لِحُقوقِ الإِنْسان". في حينِ أَكَّدَتِ المادَّةُ السّادِسَةُ على أَنَّ "حُرِّيَّةَ العَقيدَةِ مُطْلَقَةٌ، وَتَمَتُّعَ جَميعِ الأَدْيانِ وَالمَذاهِبِ القائِمَةِ في الدُّوَلِ الأَعْضاءِ بِتَقاليدِها وَنُظُمِ الأَحْوالِ الشَّخْصِيَّةِ لِأَتْباعِها على أَلّا يَتَنافى ذَلِكَ مَعَ الوَحْدَةِ القَوْمِيَّةِ أَوْ مَصْلَحَةِ دَوْلَةِ الاتِّحاد".
أَمّا "لَجْنَةُ حُقوقِ الإِنْسانِ في الوَطَنِ العَرَبِيّ"، فَأَكَّدَ تَقْريرُها أَنَّ الطَّريقَ إلى الوَحْدَةِ العَرَبِيَّةِ يَتَطَلَّبُ بِالضَّرورَةِ أَنْ "تَتَوافَر، لِكُلِّ مُواطِنٍ عَرَبِيّ، في كُلِّ جُزْءٍ من أَرْضِ العُروبَة، الحُقوقُ الأَساسِيَّةُ لِلإِنْسانِ حَتّى يَأْمَنَ بِها مِنَ الخَوْفِ وَالفاقَةِ وَالمَرَضِ وَالجَهْلِ فَيَعْمَلَ حُرًّا، آمِنا".
كَما كانَ أَعْضاءُ المُؤْتَمَرِ على وَعْيٍ بِوُجودِ بَعْضِ الكَوابِحِ التي من شَأْنِها عَرْقَلَةُ العَمَلِ بِمَبادِئِ هَذا الإِعْلانِ في بَعْضِ أَقْطارِ الوَطَنِ العَرَبيِّ التي "يَنْقُصُها بَعْضُ تِلكَ الحُقوقِ الأَساسِيَّةِ وَيَحولُ دونَ تَوْفيرِ بَعْضِها الآخَرِ وَهِيَ اسْتِعْمارُ الجُزْءِ الأَكْبَرِ مِنَ الوَطَنِ العَرَبيِّ وَاغْتِصابُ جُزْءٍ من قَلْبِ الوَطَنِ العَرَبيِّ بِفِعْلِ الصُّهْيونِيَّةِ وَالاسْتِغْلالِ الداخِلِيّ".
وَإِنْ أَكَّدَ أَعْضاءُ المُؤْتَمَرِ على أَنَّ حُقوقَ الإِنْسانِ تَشْتَرِطُ فيما تَشْتَرِطُ "التَّحَرُّرَ مِنَ الاسْتِغْلالِ الدّاخِلِيّ"، فَإِنَّهُمْ بَيَّنوا في المُقابِلِ أَنَّ تِلكَ الحُقوقَ لا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَوْفِيَ صورَتَها الحَقَّةَ إِذا "بَقِيَتِ الأُمِّيَّةُ مُتَفَشِّيَةً في أَرْجاءِ الوَطَنِ العَرَبِيّ"، لِذَلِكَ يَعْتَبِرُ المُؤْتَمِرونَ أَنَّ "انْتِشارَ العِلْمِ هُوَ السَّبيلُ الأَوَّلُ إلى رَفْعِ المُسْتَوى الحَضارِيِّ لِلمُواطِنِ العَرَبيِّ وَتَهْيِئَتِهِ لِإِدْراكِ حُقوقِهِ وَواجِباتِهِ وَحُسْنِ مُمارَسَتِها".
النخبة العربية كانت على وعي بأهمية حقوق الإنسان في بناء الدولة العربية في الوقت الذي تجاهلت الأنظمة ذلك
وَبِالتَّوازِي مَعَ ذَلِكَ، أَكَّدَتْ "لائِحَةُ لَجْنَةِ حُقوقِ الإِنْسانِ" على ضَرورَةِ تَعْميمِ الضَّمانِ الِاجْتِماعِيِّ في أَرْجاءِ الوَطَنِ العَرَبِيّ، ضِدَّ عَوامِلِ المَرَضِ وَالبَطالَةِ وَالشَّيْخوخَةِ وَالعَجْز، وَاعْتَبَرَتِ العَمَلَ حَقًّا من بَيْنِ حُقوقِ الإِنْسانِ الأَساسِيَّة. كَما أَوْلَتِ اللّائِحَةُ أَهَمِّيَّةً كُبْرى لِلمَرْأَةِ وَاعْتَبَرَتْ أَيْضًا أَنَّ "كُلَّ ما جاءَ في تَقْريرِ اللَّجْنَةِ يَنْطَبِقُ على الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ كُلٍّ فيما يَتَّصِلُ بِهِ بِمَنْزِلَةٍ سَواء".
تَبْرُزُ أَهَمِّيَّةُ هَذِهِ الوَثيقَة، التي صَدَرَتْ في عَقْدِ الخَمْسينِيّاتِ، في إِظْهارِ مَدى وَعْيِ النُّخْبَةِ العَرَبِيَّةِ بِالقَضايا الجَوْهَرِيَّةِ التي شَغَلَتْها وَنَوْعِيَّةِ الثَّقافَةِ السِّياسِيَّةِ التي كانَتْ سائِدَةً لَدَى قِطاعٍ وَاسِعٍ من تِلكَ النُّخْبَةِ وَمَدى تَشَبُّعِها، وَتَشَبُّثِها بِالقِيَمِ الإِنْسانِيَّةِ الكَوْنِيَّةِ السّائِدَةِ آنَذاكَ وَعُمْقِ تَحْليلِها لِواقِعِ العَرَبِ وَدِقَّةِ تَصَوُّراتِها لِحُقوقِ الإِنْسانِ بِأَبْعادِها الحُقوقِيَّةِ وَالاجْتِماعِيَّةِ وَالاقْتِصادِيَّةِ وَالثَّقافِيَّة، الأَمْرُ الذي يَسْمَحُ لَنا بِالقَوْلِ إِنَّ النُّخْبَةَ العَرَبِيَّةَ الوَطَنِيَّةَ وَالقَوْمِيَّةَ التَّقَدُّمِيَّةَ المُثَقَّفَةَ كانَتْ بَريئَةً مِمّا كانَ يُنْسَبُ إِلَيْها من إِهْمالٍ لِلمَسْأَلَةِ الدّيموقْراطِيَّةِ وَحُقوقِ الإِنْسانِ بِكُلِّ أَبْعادِها. إِذْ كانَتْ هَذِهِ النُّخْبَة، أَوْ جُزْءٌ هامٌّ مِنْها على الأَقَلّ، على وَعْيٍ بِأَهَمِّيَّةِ حُقوقِ الإِنْسانِ في بِناءِ الدَّوْلَةِ العَرَبِيَّةِ في الوَقْتِ الذي تَجاهَلَتِ الأَنْظِمَةُ ذَلِكَ على الرَّغْمِ من رَفْعِها لِشِعاراتِ الحُرِّيَّةِ وَالاشْتِراكِيَّة.
(خاص "عروبة 22")

