تُشيرُ العَديدُ مِنَ الدِّراساتِ الحَديثَة، إلى أَنَّ مَفْهومَ السِّيادَةِ في الدَّوْلَةِ الحَديثَة، لَمْ يَعُدْ يَنْطَلِقُ فَحَسْبُ مِنْ مَدى قُدْرَةِ الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّة على الوُصولِ إلى البَياناتِ وَتَحْليلِها وَتَفْسيرِها وإِعادَةِ تَوْجيهِها، وإِنَّما أَيْضًا مِنْ مَدى امْتِلاكِها لِلأَدَواتِ التِّكْنولوجِيَّةِ الجَديدَة، في زَمَنٍ تَتَحَوَّلُ فيهِ آلِيّاتُ السُّلطَةِ الصُّلبَةِ إلى أُخْرى شَبَحِيَّة، وَصِناعَةُ واتِّخاذُ القَراراتِ مِنْ قُصورِ الحُكْم، إلى لَوْحاتِ تَحَكُّمٍ في أَقْبِيَةٍ عَميقَة، وَهُوَ ما يَتَجَلّى بِوُضوحٍ خِلالَ العَقْدَيْنِ الأَخِيرَيْن، اللَّذَيْنِ كَرَّسَتْ تَحَوُّلاتُهُما التِّكْنولوجِيَّةُ الحادَّة، نُسْخَةً جَديدَةً مِنَ المَفاهيمِ المُؤَسِّسَةِ لِلدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّة، فَرَضَتْها "تَحَوُّلاتُ الرَّقْمَنَةِ" وَغَيْرُها مِنَ المُصْطَلَحاتِ الجَديدَة، حَيْثُ تَلعَبُ الخَوارِزْمِيّاتُ دَوْرًا كَبيرًا في إِدارَةِ مُخْتَلِفِ نَواحي الحَياةِ في المَفْهومِ الجَديد، على نَحْوٍ يَضْرِبُ مَفاهيمَ السِّيادَةِ والأَمْنِ القَوْميِّ في الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّةِ القَديمَةِ في مَقْتَل.
تُؤَسِّسُ فُنونُ الرَّقْمَنَةِ الجَديدَة، حَسْبَما يَرى ميشال فوكو، أَحَدُ أَبْرَزِ فَلاسِفَةِ فَرَنْسا في النِّصْفِ الثّاني مِنَ القَرْنِ العِشْرين، لِأَنْماطٍ جَديدَةٍ مِنْ أَدَواتِ السُّلطَةِ الحَديثَة، تَخْتَفي فيها الأَدَواتُ الصُّلبَة، لِتُفْسِحَ المَجالَ أَمامَ هَنْدَسَةٍ جَديدَةٍ لِلأَدَواتِ التَّقْليدِيَّةِ القَديمَة، التي اسْتَخْدَمَتْها الدَّوْلَةُ الوَطَنِيَّة، فالسُّلطَةُ ـ بِبَساطَةٍ ـ وَفْقَ المَفْهومِ الرَّقْمِيّ، لَمْ تَعُدْ تُمارسُ مِنْ أَعْلى إلى أَسْفَل، وإِنَّما أَصْبَحَتْ قادِرَةً عَبْرَ مَلايينِ الخَوارِزْمِيّات، على التَّسَلُّلِ إلى الأَفْكارِ عَبْرَ المَلايينِ مِنَ الشَّبَكاتِ غَيْرِ المَرْئِيَّة، مِنْ أَجْلِ هَنْدَسَةِ تِلكَ الأَفْكار، وَتَشْكيلِ الهُوِيَّةِ الثَّقافِيَّةِ والاجْتِماعِيَّةِ على نَحْوٍ ساحِر، يَفوقُ بِكَثيرٍ الدَّوْرَ الكَبيرَ الذي لَعِبَهُ ظُهورُ الطِّباعَةِ في المِنْطَقَةِ العَرَبِيَّة، في ظُهورِ الفِكْرِ القَوْمِيّ.

فَإِذا كانَتِ الطِّباعَةُ تُصَنَّفُ بِاعْتِبارِها أَحَدَ العَوامِلِ الرَّئيسة، التي لَعِبَتْ دَوْرًا كَبيرًا في نُشوءِ القَوْمِيَّةِ الحَديثَة، فَإِنَّ الخَوارِزْمِيّاتِ قِياسًا على ما سَبَق، يُمْكِنُها أَنْ تَقومَ اليَوْمَ بِدَوْرٍ مُشابِه، وَرُبَّما أَكْبَرَ مِمّا قامَتْ بِهِ الطِّباعَةُ مِنْ قَبْل، عَبْرَ بِناءِ قَوْمِيَّةٍ خَوارِزْمِيَّة، تَسْتَنِدُ إلى مُحْتَوًى ذَكِيّ، يُمْكِنُ بِناؤُهُ على نَحْوٍ يُعيدُ إِنْتاجَ الحُدودِ الرَّمْزِيَّةِ لِلأُمَّةِ في الفَضاءِ الرَّقْمِيّ، شَرْطَ وَضْعِ حُزْمَةٍ مِنَ السِّياساتِ اللّازِمَةِ لِفَرْضِ السِّيادَةِ العَرَبِيَّةِ الرَّقْمِيَّة، تَنْطَلِقُ مِنَ القُدْرَةِ على التَّحَكُّمِ في البُنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ لِلإِنْتِرْنِت، والسَّيْطَرَةِ على البَيانات، وَمَنْعِ الهَيْمَنَةِ الرَّقْمِيَّةِ مِنْ قِبَلِ الشَّرِكاتِ الأَجْنَبِيَّةِ، لِتَقْوِيَةِ الاسْتِقْلالِ الوَطَنِيّ.
لَمْ تَعُدِ التَّحَدِّياتُ السّيبْرانِيَّةُ المُعاصِرَةُ مَحْصورَةً، حَسْبَما يَرى الكَثيرُ مِنَ المُتَخَصِّصين، في حِمايَةِ البَياناتِ أَوْ صَدِّ الهَجَماتِ الإِلِكْتْرونِيَّة، بَلْ أَصْبَحَتْ تَمَسُّ جَوْهَرَ السِّيادَةِ الوَطَنِيَّة، عَبْرَ قُدْرَتِها على تَهْديدِ الأَدَواتِ الرَّئيسِيَّةِ لِلدَّوْلَةِ التي تَسْتَخْدِمُها في حِمايَةِ مَوارِدِها وَمُؤَسَّساتِها، وَهُوَ ما باتَ يَفْرِضُ تَحَدِّياتٍ عِدَّةً على فِكْرَةِ المُجْتَمَعِ الرَّقْميِّ العَرَبِيّ، الذي لَمْ يَعُدْ تَرَفًا تِقْنِيّا، يَتَحَمَّلُ مَسْؤولِيَّتَهُ قِطاعٌ بِعَيْنِهِ في الدَّوْلَةِ العَصْرِيَّة، بَل تَحَوَّلَ إلى قَضِيَّةٍ وَطَنِيَّةٍ شامِلَة، تَتَطَلَّبُ تَنْسيقًا كَبيرًا بَيْنَ المُؤَسَّسات، وَتَحْديثًا مُتَواصِلًا لِلتَّشْريعاتِ والاسْتْراتيجِيّات.
تَلعَبُ الخَوارِزْمِيّاتُ الحَديثَة، حَسْبَما يَقولُ الدُّكْتور أَحْمَد أَبو زَيْد، أُسْتاذُ العُلومِ السِّياسِيَّةِ المُساعِد، في كُلِّيَّةِ التِّجارَةِ جامِعَةِ أَسْيوط، دَوْرًا كَبِيرًا في تَشْكيلِ وَتَوْحيدِ المُجْتَمَعِ المُتَخَيَّل، الذي يَتَجَسَّدُ في شَكْلِ مُجْتَمَعاتٍ مُتَخَيَّلَةٍ رَقْمِيَّة، تُسْهِمُ في تَجْميعِ رُوّادِ المِنَصّاتِ الرَّقْمِيَّةِ حَوْلَ مُحْتَوًى رَقْميٍّ مُوَحَّد، يُسْتَخْدَمُ مِنْ مَقاطِعِ الفيدْيوهاتِ المُصَوَّرَة، والأَغاني الوَطَنِيَّةِ والأُخْرى الشَّعْبِيَّة، إلى جانِبِ الأَخْبارِ السِّياسِيَّةِ الدّاعِمَةِ لِلقَوْمِيَّة، ما يَجْعَلُ مِنْ هَذِهِ المِنَصّاتِ وَخَوارِزْمِيّاتِها، بِمَثَابَةِ فَضاءٍ مَفْتوحٍ لِإِعادَةِ إِنْتاجِ الأُمَّةِ بِصيغَةٍ رَقْمِيَّةٍ حَديثَة، وَهُوَ ما باتَ يَفْرِضُ ضَرورَةَ العَمَلِ على اسْتِعادَةِ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ العَرَبِيَّة، والسَّيْطَرَةِ على بُنْيَتِها التَّحْتِيَّةِ الرَّقْمِيَّةِ وَمَجالِها السّيبْرانِيّ، لِلحِفاظِ على مَصادِرِ بَياناتِها الوَطَنِيَّة.
يَتَجاوَزُ ما يَشْهَدُهُ العالَمُ الآنَ مِنْ صِراعاتٍ سيبْرانِيَّةٍ حادَّة، فِكْرَةَ صِراعِ الحَضارات، التي أَطْلَقَها المُفَكِّرُ الأَميرْكِيُّ وَعالِمُ الِاجْتِماعِ الشَّهيرُ صامْويل هَنْتِنْغْتون مَطْلَعَ التِّسْعينِيّات، فالصِّراعُ الذي كانَ يَسْتَهْدِفُ حَسْبَ نَظَرِيَّةِ هَنْتِنْغْتون بِناءَ نِظامٍ عالَميٍّ جَديدٍ اسْتِنادًا إلى التَّنافُسِ بَيْنَ الحَضارات، سَرْعانَ ما تَحَوَّلَ إلى صِراعٍ مِنْ نَوْعٍ آخَر، تُديرُهُ قُوًى خَفيةٌ تَتَأَلَّفُ مِنْ خَوارِزْمِيّاتٍ وَشَبَكاتٍ رَقْمِيَّة، تَعْمَلُ وَفْقَ آلِيّاتٍ شَديدَةِ التَّعْقِيد، تَسْتَهْدِفُ تَشْكيلَ هُوِيَّةِ الإِنْسانِ الجَديد، وإِعادَةَ بَرْمَجَتِهِ على نَحْوٍ تَبْدو فيهِ النُّظُمُ السِّياسِيَّةُ التَّقْليدِيَّةُ عاجِزَةً عَنِ اسْتيعابِ تِلكَ التَّحَوُّلاتِ الحادَّة، التي تَسَبَّبَتْ في تَراجُعِ سُلطَةِ الدَّوْلَة، لِصالِحِ شَبَكاتٍ رَقْمِيَّةٍ عابِرَةٍ لِلحُدود، تَتَحَكَّمُ في مُخْتَلِفِ نَواحي الحَياة، بَدْءًا مِنْ نُظُمِ التِّجارَةِ العابِرَةِ لِلقارّات، وانْتِهاءً بِاحْتِكارِ المَعْرِفَةِ والسِّياساتِ العامَّة، وَهُوَ ما انْتَهى إلى دُخولِ العالَمِ إلى مَرْحَلَةٍ ما، يُمْكِنُ وَصْفُها بِـ"مَرْحَلَةِ ما بَعْدَ الدَّوْلَةِ التَّقْليدِيَّة"، وَهِيَ مَرْحَلَةٌ يَتَراجَعُ فيها الفَضاءُ العامُّ بِدَرَجَةٍ كَبيرَة، لِصالِحِ فَضاءٍ خَوارِزْميٍّ خَاصّ، وَتَتَوارى فيها مَفاهيمُ الشَّعْبِ والمَصْلَحَةِ العامَّة، خَلْفَ طَبَقاتٍ شَديدَةِ التَّعْقيدِ مِنَ الإِحْصاءِ والذَّكاءِ الاصْطِناعِيّ، بَيْنَما الفاعِلونَ الجُدُدُ مُجَرَّدُ شَرِكاتٍ وَخَوادِمَ وَكُتَلِ بَيانات، والمُسْتَخْدِمونَ مُجَرَّدُ خَوارِزْمِيّاتٍ ذاتِ أَهْدافٍ تِجارِيَّة، تَتَحَوَّلُ مَعَ مُرورِ الوَقْتِ إلى سُلطَةٍ حاكِمَةٍ خَفِيَّة، تَمْتَلِكُ القُدْرَةَ على مَعْرِفَةِ الإِنْسانِ أَكْثَرَ مِمّا يَعْرِفُ نَفْسَه.
![]()
المُؤَكَّدُ حَسْبَما يَذْهَبُ الكَثيرُ مِنَ الخُبَراء، هُوَ أَنَّ طَبيعَةَ الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّةِ قَدِ اخْتَلَفَتْ مُنْذُ ظُهورِ الإِنْتِرْنِتِ بِصورَةٍ جَوْهَرِيَّةٍ عَنْها قَبْلَ عالَمِ الإِنْتِرْنِت، وَهُوَ ما يَتَجَلّى حَسْبَما يَرى الدُّكْتورُ عَزْمي خَليفَة، أُسْتاذُ العَلاقاتِ الدَّوْلِيَّة، والخَبيرُ في المَرْكَزِ المَصْرِيِّ لِلفِكْرِ والدِّراساتِ الاسْتْراتيجِيَّة، مِنْ حالَةٍ مُحَدَّدَةِ الزَّمانِ والمَكان، يُمْكِنُ نِسْبَتُها إلى اقْتِصادِيّاتٍ وَمُمارَساتٍ سِياسِيَّةٍ مُحَدَّدَة، إلى حالَةٍ أَوْ طَبيعَةٍ مُجَرَّدَةٍ تَمامًا، لِتَتَحَوَّلَ إلى كِيانٍ داخِلَ كَوْكَبِ الأَرْض، يَتَشَارَكُ في المَسْؤولِيّاتِ التي تَفْرِضُها تَحَوُّلاتُ ما بَعْدَ العَوْلَمَة، وَهِيَ تَحَوُّلاتٌ تَفْرِضُ تَغَيُّراتٍ لافِتَةً لا تَتَعَلَّقُ فَحَسْبُ بِالدَّوْرِ الإِقْليميِّ لِلدَّوْلَة، وإنَّما في عَلاقَةِ مَرْكَزِ الدَّوْلَةِ بِمُحيطِها الداخِليّ، وَهُوَ ما يَتَّفِقُ مَعَ ما يَذْهَبُ إِلَيْهِ الكَثيرُ مِنَ الخُبَراء، مِنْ أَنَّ الدُّوَلَ التَّقْليدِيَّةَ قَدْ تَشْهَدُ مَعَ حُلولِ العامِ 2050، تَحَوُّلاتٍ أَكْثَرَ حِدَّة، رُبَّما تَنْتَهِي إلى تَدْشينِ اتِّحاداتٍ إِقْليمِيَّةٍ تُدارُ ذَاتِيًا، لِكُلٍّ مِنْها نُظُمُ حُكْمٍ وَخَوارِزْمِيّاتٌ تَخُصُّها، ضِمْنَ إِطَارِ ما يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِسِيادَةٍ تَشارُكِيَّةٍ لامَرْكَزِيَّة، يُعادُ فيها تَعْريفُ الحُدودِ والسُّلطات، بَلْ والعُقودِ الاجْتِماعِيَّةِ بَيْنَ النّاسِ في زَمَنٍ مُقْبِل، لَنْ تَكونَ خَرائِطُ السِّياسَةِ المَعْروفَةُ لَنا حالِيّا، قائِمَةً فيهِ على الجُغْرافْيا وَحْدَها، بَل على شَبَكاتٍ تَقومُ على الحُكْمِ الذَّكِيّ، والتَّوْزِيعِ العادِلِ لِلقُوَّةِ والمَعْلومات!.
(خاص "عروبة 22")

