على سَبيلِ المِثال، في الفَصْلِ الأَوَّل، يَرى المُؤَلِّفُ أنَّ فَهْمَ نَشْأَةِ الحُدودِ السِياسِيَّةِ التي شَكَّلَتِ الكِياناتِ المُسْتَقِلَّةَ في الشَّرْقِ الأوْسَط، يَتَطَلَّبُ العَوْدَةَ إلى الحَرْبِ العالَمْيَّةِ الأولى، معَ تَعاقُبِ التَّحالُفاتِ والوُعودِ والحِساباتِ الاسْتراتيجِيَّةِ الأوروبِيَّةِ التي رَافَقَتْها، وانْهِيارِ الإمْبَراطورِيَّةِ العُثْمانِيَّة.
ظهور جيل جديد أكثر اتصالًا بالعالم ساهم في بلورة ثورة ضد الأنظمة التي كان آباؤهم قد استسلموا لها
وفِي السِّياقِ نَفْسِه، كَمَا نَقْرأُ في خاتِمَةِ العَمِل، يُضيفُ المُؤَلِّفُ أنَّ المَجالَ الشَّرْقَ أوْسَطِيَّ المُضْطَرِبَ أَدَّى إلى "تَأْسيسِ دَوْلَةِ إسرائيلَ في عامِ 1948 - في امْتِدادٍ مُبَاشِرٍ لإعْلانِ بَلْفورَ عامَ 1917 - على أنقاضِ المُدُنِ والحَياةِ الفِلَسْطينيَّةِ وإلى إدْخالِ اسْتِعْمارٍ عَسْكَرِيّ. وقدْ بُنِيَ هذا الاسْتِعْمارُ على قاعِدَةٍ مِنَ الدَّعْمِ المُتَواصِلِ مِنَ القُوى الغَرْبِيَّة، واسْتَمَرَّ، بأشْكالٍ مُتَجَدِّدَة، في هَيْكَلَةِ الواقِعِ الاسْتِعْمارِيّ".
تَهُمُّنا هنا الفُصولُ الأخيرَةُ مِنَ العَمْل، ذاتُ الصِّلَةِ بِمَا بعدَ أحْداثِ 2011 التي مَرَّ بِها الوَطَنُ العَرَبِيّ، حَيْثُ يُلَخِّصُ الكاتِبُ أسْبابَ تِلْكَ الثَّوْراتِ عندَ البَعْضِ أوِ الفَوْضى الخَلّاقَةَ عِنْدَ البَعْضِ الآخَر، في أنَّها مُرْتَبِطَةٌ بِـ"ارتفاعِ مُسْتَوى التَّعْليمِ وتَراجُعِ الأُمِّيَّة، وظُهورِ جيلٍ جَديدٍ أَكْثَرَ اتِّصالًا بالعالَمِ بِفَضْلِ تِقْنِيّاتِ الاتِّصال، مُتَأَثِّرٍ بِخِطابِ النَّزْعَةِ الفَرْدانِيَّة، أَكْثَرَ حَرَكِيَّةٍ وَأَقَلَّ خُضوعًا للسُّلْطَةِ العائِلِيَّة، ساهَمَ في بَلْوَرَةِ ثَوْرَةٍ ضِدَّ الأَنْظِمَةِ التي كانَ آباؤهُمْ قدِ اسْتَسْلَموا لها مُنْذُ السَّبْعينيَّات".

واضِحٌ أنَّنا إِزاءَ نِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أسِبابِ انْدِلاعِ تِلْكَ الأحْداث، ولا يُمْكِنُ حَصْرُ مُجْمَلِ الأسْبابِ في ما تَضَمَّنَهُ الفَصْلُ السّابِعُ مِنَ العَمَل، هذا مِنْ دونِ الحَديثِ عنِ اخْتِلافِ تَطَوُّراتِ وأسْبابِ الأحْداثِ نَفْسِها مِنْ دَوْلَة لِأُخْرى، وتَغْييبِ المُؤَلِّفِ لمُحَدِّداتٍ جِيوسِياسِيَّةٍ عِدَّة، أوْ أسْبابٍ مَوْضوعِيَّةٍ ساهَمَتْ في تَغْذِيَةِ خِطابِ وَوَقائِعِ الاحتقان، وأدْوارِ تَيّاراتٍ إيدْيولوجِيَّةٍ مِنْ مَرْجِعِيّاتٍ عِدَّة، كانتْ أَشْبَهَ بِأَداءٍ وَظيفيٍّ في التَّعامُلِ معَ تَطَوُّراتِ السّاحَةِ حينَئِذٍ، مِنْ قَبيلِ بَعْضِ التَّيّاراتِ الدّينيَّةِ والمادِّيَّةِ التي تَعامَلَتْ بِمَنْطِقِ "رَبيعٍ حَلال" أوْ "رَبيعٍ مَشْروع" مُقابِلَ "رَبيعٍ حَرام" أوْ "رَبيعٍ غيرِ مَشْروع".
بِخُصوصِ أحْداثِ الإِبادَةِ في القِطاع، فقدْ كانَ مَرَدُّها "الدَّعْمُ العَسْكَرِيُّ واللّوجيسْتِيُّ الكَبيرُ الذي قَدَّمَهُ الرَّئيسُ الأميرْكِيُّ جو بايْدِن لِتَلّ أبيب، وحَقُّ النَّقْضِ المُسْتَمِرُّ لِأَيِّ قَرارٍ لِوَقْفِ إِطْلاقِ النّارِ في مَجْلِسِ الأَمْنِ التّابِعِ للأُمَمِ المُتَّحِدَة، والإِمْداداتُ المُسْتَمِرَّةُ بالذَّخائِر، بالإِضافَةِ إلى التَّعاوُنِ الأَمْنيِّ والتِّكْنولوجيِّ المُعَزَّزِ بينَ إسْرائيلَ وَدُوَلٍ أوروبِيَّةٍ عِدَّة، كَشَفَتْ عنْ مُشارَكَةٍ مُباشِرَةٍ في مَشْروعٍ حَرْبيٍّ ضِدَّ مُجْتَمَعٍ فِلَسْطينيٍّ مُحَاصَر".
أعادت التقسيمات والانتدابات الاستعمارية والانقلابات والحروب والثورات والإبادة الجماعية ترتيب فضاء الشرق الأوسط
خُصِّصَ الفَصْلُ الأَخيرُ مِنَ العَمَلِ للحَديثِ عنِ "الحِقْبَةِ التّْرامْبِيَّةِ" في المِنْطَقَة، واعْتَبَرَ الكاتِبُ أنَّ "عَوْدَةَ دونالد ترامب إلى مِنْطَقَةِ الشَّرْقِ الأوْسَط، كانتْ عَبْرَ بَوّابَةِ القَضِيَّةِ الفِلَسْطينيَّة"، أَقَلُّهُ أنَّ الرَّئيسَ الأميرْكيَّ حرصَ على تَوْقيعِ "اتفاقِ السَّلامِ" الهَشّ.
مِنْ سوءِ حَظِّ مِنْطَقَةِ الشَّرْقِ الأوْسَط، أنَّها جاءَتْ على مُفْتَرَقِ طُرُقِ أفريقيا وآسيا وأوروبا، وأنَّها حَسَبَ المُؤَلِّف، ومُنْذُ "تَفَكُّكِ الإمبراطوريةِ العثمانية، أعادَتِ التَّقْسيماتُ والانْتِداباتُ الاسْتِعْمارِيَّة، والاسْتِقلالات، والحَرْبُ البارِدَة - السّاخِنَة، والانْقِلابات، والحُروبُ ضِدَّ الإِرْهاب، والحَرَكاتُ التَّحَرُّرِيَّةُ العابِرَةُ للحُدود، والثَّوْراتُ ومُواجَهاتُ الثَّوْرات، وُصولًا إلى المَشاريعِ الحَرْبِيَّةِ والإِبادَةِ الجَماعِيّة، تَرْتيبَ هذا الفَضاءِ بِشَكْلٍ مُتَتابِع، فأُعيدَ تَعْريفُ السِّياداتِ المَحَلِّيَّة، وأُعيدَ تَشْكيلُ حَرَكَةِ السُّكّانِ ورُؤوسِ الأمْوالِ والمَوارِدِ الطّاقِيَّة". وبالنَّتيجَة، كُلُّ لَحْظَةٍ مِنَ الانْفِصالِ أوِ الانْكِسار، طَوالَ أَكْثرََ مِنْ قَرْنٍ مِنَ التّاريخ، شَكَّلَتْ أوْ عَزَّزَتْ أنْماطَ القيودِ التي اضْطُرَّتْ فيها اسْتِقْلالِيَّةُ المُجْتَمَعاتِ إلى التَّكَيُّفِ باسْتِمْرارٍ معَ التَّدَخُّلاتِ الخارِجِيَّة.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")

